ميار جرادات.. بنت من البنات
محمود جرادات مواطن فلسطيني من جنين، متزوج ولديه أربعة أطفال، تعرض للاعتقال مرتين وقضى 8 سنوات في السجون الإسرائيلية، ثم عادت إسرائيل في منتصف ديسمبر الماضي لتعلن عن اعتقال جرادات لاتهامه بتنفيذ عملية إطلاق النار قرب مستوطنة "حومش" شمال مدينة نابلس، أدت لمقتل مستوطن وإصابة اثنين آخرين، موضوعنا هنا ليس عن جرادات وإن كان مذنبًا أو غير ذلك، إنما حديثنا عن شبل خرج من صُلب هذا الرجل، هو ابنته ميار التي لم تبلغ العشر سنين.
فبعد أن تم القبض على الأب قررت السلطات الإسرائيلية معاقبة أسرته بأكملها بأن يتم هدم منزلهم وتشريد الأسرة كعقوبة مضاعفة جراء ما اتُهم الأب بارتكابه، وبالفعل نفّذت القوات الإسرائيلية تهديداتها بعد أن فشلت وقفات الأسرة والجيران الاحتجاجية في إلغاء القرار الإسرائيلي أو حتى تعطيله، وتم هدم بيت جرادات.
ولكن مع التهديدات الأولى وإعطاء مهلة للأسرة بإخلاء البيت، ظهرت من باطنه قوة بشرية أسطورية تجسدت في طفلة لم تتجاوز السنوات العشر، ظهرت ميار وهي لا تحمل سلاحًا ولا عتادًا، لكنها تحمل إيمانًا بحتمية النصر حتى وإن تأخر، وبضرورة الثبات حتى وإن كان في وجه جيش مُدجج، وبعدالة القضية حتى وإن عدمت المناصرين، ظهرت ميار فأبهرت العالم بكلماتها وثباتها وقوة حُجتها.
المثير في الأمر أن هذه الطفلة الشجاعة أصرت على أن تشهد لحظة هدم منزلها، ولكنها وقفت بثبات وبثقة في نصر قادم، حتى وإن لم تظهر له أية دلالات، وقفت ميار لتشهد هدم بيتها وموضع ذكرياتها البريئة وأحلام مستقبلها المجهول لتحكي في مستقبل الأيام لأولادها وأحفادها قصة الأرض السليبة، وتروي لهم قصتها مع تلك القوة الغاشمة التي تقتل الحلم عند الأطفال، وقفت ميار تواجه الكاميرات بلا خوف وبلا دموع متحدثة إلى العالم بلا تردد لتؤكد: "بدهم نبكي.. مش راح نبكي، وراح نبني بيتنا من جديد".
وتوجه ميار كلماتها لأبيها الأسير: "صبرك يا بابا إن شاء الله الفرج قريب، الله معك، إحنا فخورين بك وراح يظل دايمًا راسنا مرفوع".. ثم تختتم كلماتها برسالة مفتوحة إلى العالم الحر تقول فيها: "هاي أرضنا، حقنا، هاي إلنا.. إن شاء الله راح تتحرر فلسطين والفرج قريب بإذن الله.. راح نظل نقاوم ونقاوم ونقاوم تانحرر أرضنا".
ميار ليست سوى وجه عربي أبيّ- كعشرات بل كآلاف غيرها- تظل أرضنا العربية حُبلى بهم وبهن، حتى إذا حانت ساعة الحاجة إليهم خرجوا من باطن الأرض ومن خلف جدران بيوتٍ حجبتهم- أو حمَتهم من نيران المواجهة- ليواجهوا تلك النيران بصدور عارية وبثبات عجيب، لكن ما حملوه من يقين بعدالة قضيتهم وإيمان بحتمية النصر يجعل لديهم القدرة على المواجهة، مهما صغرت أعمارهم أو ضعُفت معداتهم أو خارت قواهم، إنه اليقين يا سادة، اليقين الذي منح هذه الطفلة قوة الحُجة والثبات على الموقف والقدرة على المواجهة.
وميار- في نظري- ليست سوى بطلة عربية جديدة تذكرنا ببطولات فتيات سبقنها، أمثال الجزائرية جميلة بوحيرد التي أججت المشاعر العربية في وجه المحتل الفرنسي، وكالبطلة المصرية زينب الكفراوي التي ناضلت في صفوف المقاومة الشعبية في مجابهة المحتل الإنجليزي، والقائمة ممتدة لسيدات وفتيات ذكرهن التاريخ وأخريات تجاهلهن المؤرخون- عمداً أو سهوًا- فحمل الوجدان الشعبي قصص بطولاتهن التي امتدت في ميادين شتى بين ساحات العلم والفن والرياضة والسياسة والتربية والأدب.
ويشاء الله أن تأتي رسالة الطمأنة على لسان الطفلة المقهورة في أحلك لحظات اليأس والانكسار لتثبّت غيرها بكلمات واثقة خرجت أقوى من طلقات الرصاص أطلقتها في وجه الجنود الذين هدموا بيتها: "أنتم هدمتم بيوتنا، لكننا راح نبنيها، احنا مش راح نبكي أبدًا، مش راح نركع لكم أبدًا، هدوا بيتنا عادي مش مهتمين، عشان احنا راح نبني، راح نبني، راح نبني".
أيتها القوة الغاشمة غدًا ستهزمكم ميار وهي قد هزمتكم اليوم بكلماتها، لكنها في الغد ستعود إليكم بشباب أنجبتهم وعلمتهم محبة الأوطان، وهذا لن يتم بمجرد الحماس والدعاء والأمل والرجاء، فلن يأتينا الغد بجيل النصر إلا حين يقوم كلٌ منا بدوره لصناعة البطل المخلّص والفارس المحرّر.
المدرس والفنان والإعلامي والداعية والأديب، وحتى صانع الخبز وبائع اللبن الذي لا يغش جيل النصر ولا يسمم حليبه، كل هؤلاء مكلفون بدور وإن صغُر لتحقيق حُلم ميار في نصرٍ قريبٍ آتٍ، لنغني جميعًا بثقة فيروز وبثبات ميار: وبأيدينا سنعيد بهاء القدس.. بأيدينا للقدس سلام.. للقدس سلام.. آتٍ آتٍ آتٍ.