جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

إهدار حقوق المستهلك.. نوع من الفساد لا بد من محاربته

فى ظنى أن الحرب ضد الفساد لا تكتمل إلا بتشدد الدولة فى تطبيق مفهوم «حقوق المستهلك».. حيث الملاحظة المبدئية تقول إن كثيرًا من الشركات العاملة فى مصر تهدر حقوق المستهلك.. ولا تفيه حقه فى مقابل الفواتير التى تحصلها منه.. أو مقابل الثمن الذى يدفعه فى البضاعة التى تنتجها.. ولعل لهذا ميراثًا تم تأسيسه فى السنوات والعهود السابقة وآن أوان تغييره الآن.. أحد هذه الأسباب وأولها لا دخل للدولة فيه.. وهو زيادة عدد المصريبن سنويًا، بشكل يجعل الطلب أكثر من العرض فى معظم الأحيان، وهو ما يجعل المواطن يستهلك ما يجده أو ما يستطيع الحصول عليه لأن هذا هو المتاح أمامه، أو لأن البضاعة الجيدة غير موجودة، أو سبقه غيره وحصل عليها، أو تباع بأثمان أعلى من قدرته، لذلك يستهلك ما تعرضه له المحلات والمتاجر وهو راض، أو يشترى طعامًا من المطعم المجاور لعمله وهو يعرف أنه ليس جيدًا بما يكفى لأن المطعم الجيد بعيد، أو عليه زحام كبير أو ما إلى ذلك من أسباب تجعل المواطن مجبرًا على أن يستهلك ما يجده أمامه.. أما السبب الثانى فيعود إلى بداية تطبيق الدولة سياسات الانفتاح الاقتصادى، ورغبة المسئولين فى اجتذاب رءوس الأموال الخاصة، وتقديم الحوافز لها، مثل الإعفاء من الضرائب فى أول خمس سنوات.. أو تقديم الطاقة والمياه بالسعر المدعم، أو حتى إخلاء الأسواق من إنتاج شركات القطاع العام رخيص السعر بشكل أو بآخر.. ويبدو أن هذه الرغبة فى تدليل الشركات امتدت لعدم محاسبتها حول معايير الجدوى، أو عدم تطبيق سياسات حماية المستهلك، أو قوانين مكافحة الادخار.. وهى كلها من أساسيات اقتصاد السوق الحرة، لكن تطبيقها تأخر لدينا إلى ما بعد عام ٢٠٠٥، حيث بدأ تطبيق هذه القواعد دون تشدد كبير أو دون تطبيق جاد إذا شئنا الدقة، وإلى جانب الرغبة فى تدليل المستثمرين كانت هناك الرخاوة فى تطبيق القوانين، وهى سمة اتسمت بها الدولة المصرية لعقود طويلة على حد ما يرى المفكر الراحل جلال أمين، فالقوانين موجودة لكنها لا تطبق، وقد يكون هذا بسبب ضعف الدولة وقتها، أو عدم رغبتها فى إثارة غضب مواطنيها، أو رشوتها لهم كى يسكتوا عن محاسبتها، أو لفساد أصاب هذا المسئول أو ذاك، وهى كلها عوامل كانت تؤدى إلى عدم تطبيق القوانين عمومًا، وقوانين حماية المستهلك خصوصًا، من بين العوامل أيضًا أن المواطن المصرى نفسه ليست لديه ثقافة حقوق المستهلك، ولا يعرف ما هى حقوقه كمستهلك، وسأضرب مثلًا بالفارق بين سلوكى كمواطن مصرى وسلوك أى مواطن أجنبى فى أى مطعم مصرى، حيث إننى لم أعتد طوال سنوات طويلة جدًا الاعتراض على نوع الطعام فى أى مطعم مصرى، أو على الخدمة، وكل ما يمكن أن أفعله هو أن أدفع الحساب كاملًا وأنصرف ولا أعود لهذا المطعم مرة ثانية، فى حين يستدعى المواطن الأجنبى المسئول، ويعترض على رداءة الطعام، ويطلب أن يعاد طهيه مرة أخرى، أو ينصرف دون أن يتناول الطعام أو يدفع مقابلًا له ما دام لم يأكله، أظن أن سلوكى كمواطن مصرى هو السلوك الجمعى لمعظم المصريين من الطبقة الوسطى، فالمصرى لا يحب المشاكل، ولا يريد أن يقضى يوم إجازته فى القسم، ويتحسب أن يقابله الطرف الآخر برد سيئ، أو بنوع من البلطجة، تجره إلى الشكوى، أو إلى مشاكل أكبر، فيفضل أن يدفع ثمن خدمة لم يحصل عليها وينصرف فى هدوء ولا شك أن هذا نوع من الفساد، إهدار حقوق المستهلك انتقل إلى نطاق أوسع مع الشركات العابرة للقارات، فى مجال الاتصالات، والتأمين، والبنوك الأجنبية، التى تتعامل مع شرائح موسرة نسبيًا من الطبقة الوسطى، ينكب بعض أفرادها على أعمالهم بشكل يومى لا يتيح لهم التدقيق فى تفاصيل الفواتير التى يدفعونها أو للحيل التى تمارس عليهم، وتتضامن هذه الشركات فيما بينها فى هذه الممارسات، بحيث يجد المواطن أنها ستمارس ضده فى أى شركة اتصالات أو تأمين أو بنك يذهب إليها، فيدرك أن «أحمد» مثل «الحاج أحمد»، وأنه مسروق مسروق وأن اللص الذى يعرفه أفضل من ذلك الذى لا يعرفه.. من أشكال السرقة القانونية مثلًا أن تضع شركات الاتصالات بنودًا للدفع لا يعرف عنها المشترك شيئًا، مثل رسوم ألعاب إلكترونية لا يعرف عنها شيئًا، ويستمر فى دفع قيمتها سنوات عديدة، وعندما يطلب مراجعة فواتيره تعتذر له الشركة، وتقول إنه تم الاشتراك بطريق الخطأ، أو أنها تعتبر ممارسة المواطن لعبة إلكترونية على «فيسبوك» لمرة واحدة فى حياته اشتراكًا منه فى هذه الألعاب الإلكترونية! وتستمر فى تحصيل هذا الاشتراك طيلة حياته! إلى غير ذلك من ألعاب معروفة، كأن تتصل لتلغى خدمة ما، وتكتشف بعد سنوات أن الشركة استمرت فى تحصيل قيمتها منك سنوات طويلة، ويعتذرون لك أن الاتصال الذى ألغيت فيه الخدمة لم يتم الأخذ به لأى سبب من الأسباب!!، نفس الأمر تقوم به بعض شركات التأمين الطبى، التى تستمر فى تحصيل أقساط التأمين من المواطن طالما هو سليم، وما إن يحتاج إلى العلاج، حتى ترفض الشركة تغطية علاجه، بحجة أن التأمين لا يغطى هذا النوع من العلاج، ويدخل المواطن المريض فى مئات التفاصيل، وفى قواعد لا يعلم عنها شيئًا، ولم يخطره أحد بها من قبل ضمن سياسة الشركة لـ«جر رجله» ولا يعرف المواطن هل يتفرغ لعلاج مرضه أم لنزاع قانونى مع الشركة يكلفه مبالغ إضافية هو فى أمس الحاجة إليها، وهكذا يكتشف المواطن أنه مسروق مسروق فى كل الأحوال.. والأمر نفسه مع البنوك التى تجبر المواطن على دفع رسوم لخدمات لم يطلبها مثل كشف الحساب الورقى الشهرى، وعندما يطلب إلغاء هذه الخدمة يطلب منه دفع مبلغ يفوق رسوم الخدمة فى عامين!! ومن أمثال ذلك ما يشاع عن تعطيل بعض البنوك ماكينات الإيداع فيها قرب نهاية اليوم المحدد لسداد كروت الائتمان، ما يعنى تحول المواطن الذى استخدم الكارت إلى مدين للبنك بفائدة باهظة، رغم أنه غير مضطر إلى هذا، وماكينات البنك هى التى تم تعطيلها بفعل فاعل، وخطورة هذه الممارسات أنها تشعر المواطن بمزيد من الغضب والإحساس بسوء الوضع، وتجعله يحمل الدولة المسئولية رغم أن الدولة بريئة من هذه الأوضاع، بل إنها سعت للقضاء عليها مؤخرًا، بالتوسع فى طرح السلع والبضائع بأسعار أرخص، ولا يعنى هذا أيضًا أننى أغفل جهود جهاز حماية المستهلك، والأجهزة الأخرى.. لكن السوق المصرية واسعة، والممارسات التى تهدر حقوق المستهلك كثيرة، وأظن أن على الدولة أن تضم نشاط حماية المستهلك ومقاومة الاحتكار لمجال اهتمام أجهزة الدولة الرقابية والمعنية بمحاربة الفساد، الذى أثق فى أنها تشن عليه حربًا ضارية بالفعل.