جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

عيد الشرطة الذى تتجلى فيه البطولات المصرية

نحتفل اليوم بعيد من أهم أعيادنا وهو عيد الشرطة، الذى أصبح تجسيدًا للبطولة المصرية فى أروع صورها، ويجعلنا ندرك مع كل عام تضحيات أبطال لولاهم ما كنا لنستطيع أن نشعر بالأمان فى بيوتنا ولا بالاستقرار فى وطننا، ولهذا أصبح عيد الشرطة بالنسبة لنا عيدًا لكل المصريين يتذكرون فيه تفاصيل لقصص شجاعة أبطال دافعوا عن الوطن وقدموا حياتهم فداءً له فى وقتنا الراهن وفى كل العصور.

فنحن اليوم نحتفل بمرور ٧٠ عامًا على احتفال مصر بعيد الشرطة، فنتذكر بطولة رجال الشرطة الذين وقفوا بشجاعة فى مواجهة مدافع الاحتلال البريطانى دفاعًا عن مبنى المحافظة وعن قسمهم بمدينة الإسماعيلية، كما يتم أيضًا تكريم أبطال من شهدائنا ممن ضحوا بأنفسهم ليعيش الشعب المصرى فى أمن، وذلك فى معركة مصر ضد الإرهاب التى لا نزال نخوضها حتى الآن. فكل بطل منهم وقف بشجاعة ومنذ إعلان حرب مصر ضد الإرهاب ليواجهوا معًا عدوًا شرسًا يهدف إلى قتل المصريين وسفك دمائهم واستباحة نسائهم حاملًا شعارات دينية زائفة لا تمت للدين الإسلامى بصلة، ليتمكن من تنفيذ مخطط تدميرى ظلامى ضد أبناء الشعب المصرى لتنفيذ مؤامرة دنيئة هدفها تقسيم البلاد.

وهذه المؤامرة كان قد وضع تفاصيلها بدقة منذ ١٩٨٣ برنارد لويس البريطانى والأستاذ الفخرى الأمريكى البريطانى لدراسات الشرق الأوسط فى جامعة برنستون، وهو مهندس مخطط تقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات متصارعة، وهو مؤرخ وباحث معروف بمخططه هذا، والذى وافق عليه الكونجرس الأمريكى ووضعت الخطة فى الأدراج حتى بدأ تنفيذها تحت عنوان ثورات الربيع العربى أثناء رئاسة الرئيس الأمريكى باراك أوباما، وكانت تهدف إلى تقسيم الدول العربية إلى دويلات صغيرة متنازعة، وبالنسبة لمصر كان المخطط يتضمن تقسيمها إلى ٤ أجزاء وإضعاف الهوية المصرية وبث الفتن بين المسلم والمسيحى وبين المسلم والمسلم أيضًا، إلا أن المخطط الذى استطاع أن يبث سمومه فى دول عربية، لم يتمكن من أن يحقق أهدافه، حيث ظلت مصر عصية على التقسيم، وحيث استطاع شعبها وجيشها وشرطتها أن يتوحدوا معًا ضد قوى الظلام، وقامت ثورة شعبية هادرة شارك فيها أكثر من ٤٠ مليون مصرى وحماها جيشها وشرطتها، ونجحت الثورة فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ فى الإطاحة بالحكم الظلامى من سدة الحكم إلى غير رجعة، ولن ننسى أن الرئيس عبدالفتاح السيسى، حينما كان وزيرًا للدفاع، طلب تفويضًا من الشعب لمحاربة الإرهاب، وتم بالفعل تفويض الشعب له لمحاربة الإرهاب، ومنذ ذلك العام بدأت حرب شرسة لمواجهة الإرهاب فى كل موقع، وهى حرب صعبة وسرية، لكن رجال الجيش والشرطة وقفوا فى مواجهتها عاقدين العزم للقضاء على الإرهاب تمامًا أينما كان، وسقط لنا شهداء فى معركة العزة والاستقرار والكرامة فى قصص بطولة استثنائية نعتز بها ونفخر.

وأصبح تقليدًا أن يقوم الرئيس بتكريم الشهداء والأبطال من رجال الشرطة المصرية فى عيدهم، ويتسلم التكريم أسرهم وأبناؤهم وبناتهم أو زوجاتهم أو أمهاتهم، وهو تقليد سنوى نعتز به يملأ صدورنا فخرًا برجال هم أسود فى مواجهة العدو أينما كان. فتحية لكل أم قدمت شهيدًا للوطن، وتحية لكل زوجة قدمت زوجها فداءً للوطن، وتحية لكل ابنة أو ابن شهيد سيظل فى قلوبنا دائمًا.

والآن أصبح لدينا تاريخ حافل من البطولات والتضحيات التى نعتز بها، وأعود إلى سبب الاحتفال بعيد الشرطة منذ ٧٠ عامًا، فقد بدأت قصة معركة الشرطة فى صباح الجمعة الموافق ٢٥ يناير ١٩٥٢، حيث قام القائد البريطانى بمنطقة القناة إكسهام، باستدعاء ضابط الاتصال المصرى وسلمه إنذارًا لتُسلم قوات الشرطة بالإسماعيلية أسلحتها للقوات البريطانية، وترحل عن منطقة القناة وتنسحب إلى القاهرة، فما كان من المحافظة إلا أن رفضت الإنذار البريطانى وسلمته إلى فؤاد سراج الدين، وزير الداخلية فى هذا الوقت، فطلب منها المقاومة والصمود وعدم الاستسلام، واندلع العصيان بين قوات الشرطة، مما جعل إكسهام، وقواته، يقوم بمحاصرة المدينة وتقسيمها إلى حى العرب وحى الإفرنج، ووضع سلكًا شائكًا بين المنطقتين، كما غضب الإنجليز أيضًا بعد إلغاء معاهدة ٣٦ فى ٨ أكتوبر ١٩٥١، واعتبرت أن إلغاء المعاهدة هو بداية الحرب على المصريين وإحكام قبضة المحتل البريطانى على المدن المصرية ومنها مدن القناة، والتى كانت مركزًا رئيسيًا لمعسكرات الإنجليز، وبدأت أولى حلقات النضال ضد المستعمر واندلاع المظاهرات العارمة المطالبة بجلائهم عن البلاد، وهكذا اندلعت أحداث ٢٥ يناير ١٩٥٢، وبدأت المجزرة الوحشية ٧ صباحًا بحصار قسم مبنى المحافظة وثكنة بلوكات النظام، أى قسم الشرطة، وبدأت مدافع الإنجليز تدكّ مبنى المحافظة وثكنة بلوكات النظام، ثم أمر الجنرال إكسهام بوقف الضرب لمدة قصيرة، وأعلن على رجال الشرطة إنذاره الأخير، وهو التسليم والخروج رافعى الأيدى، وبدون أسلحتهم، وإلا فإن قواته ستستأنف الضرب بأقصى شدة، وجاء الرد من ضابط صغير الرتبة هو النقيب مصطفى رفعت الذى قال للجنرال المتوحش المتعجرف: «لن تتسلمونا إلا جثثًا هامدة».

وهكذا وسط دهشة الجنرال القاتل وذهوله من موقف الضباط والجنود، قرر أن يستأنف المذبحة، فأطلق مدافعه لتتحول المبانى إلى أنقاض وسالت الدماء الطاهرة أنهارًا لتسجل صفحات من البطولة والصمود والفداء للوطن حتى نفدت ذخيرة رجال الشرطه المصريين وسقط فى المعركة ٥٦ شهيدًا و٧٣ جريحًا، وأسر البريطانيون من بقى منهم على قيد الحياة من الضباط والجنود وعلى رأسهم قائدهم اللواء أحمد رائف ولم يفرج عنهم إلا فى فبراير ١٩٥٢.

ولم يستطع الجنرال إكسهام أن يخفى إعجابه بشجاعة المصريين، فقال لضابط الاتصال: لقد قاتل رجال الشرطة المصريون بشرف واستسلموا بشرف، ولذا فإن من واجبنا احترامهم جميعًا، ضباطًا وجنودًا، وقام جنود فصيلة بريطانية بأمر من الجنرال إكسهام، بأداء التحية العسكرية لطابور رجال الشرطة المصريين عند خروجهم من باب دار المحافظة ومرورهم أمامه تكريمًا لهم وتقديرًا لشجاعتهم، وهكذا قدم رجال الشرطه منذ ٧٠ عامًا قصة بطولات لا تزال ماثلة فى الأذهان، وعلينا نحن أن نحكيها للشباب وللأطفال لتظل فى ذاكرتهم دائمًا ملحمة للشجاعة والكرامة والدفاع عن الوطن.

وأمس الأول الأحد شهد الرئيس عبدالفتاح السيسى الاحتفال بعيد الشرطة الـ٧٠ الذى سيظل عيدًا لكل المصريين يتذكرون فيه شهداءهم الأبطال ويكرمون فيه مع احتفال كل عام أبطالًا قدموا صفحات من نور لتحيا مصر آمنة ومستقرة، وليحيا شعبها العريق فى عزة وكرامة، وليتركوا لنا قصص بطولات لن ننساها أبد الدهر، وفى تقديرى أن كلًا منها يصلح ليقدم فى أفلام سينمائية ودراما مصرية توثق لها، وحتى تظل فى ذاكرة الشباب والأطفال لتبث فيهم روح الوطنية والولاء والانتماء للوطن.

وتحية لشهدائنا الأبرار فى يوم البطولة والفداء والكرامة، وكل عام ومصر وشرطتها وجيشها وشعبها بخير وسلام وأمان.