جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الترجمة إلى العامية بين الجهل والتعمد

 

تتوالى محاولات ترجمة الأدب العالمى بالعامية المصرية بإصرار يتأرجح بين الجهل والعمد، ووصل الأمر بالبعض إلى كتابة المقالات بالعامية، آخر هذه المحاولات كانت ترجمة رواية ألبير كامو «الغريب»، ويذهب أصحاب تلك المحاولات إلى القول بوجود «لغة مصرية مستقلة»، يقصدون بذلك اللهجة العامية المصرية التى هى خليط تاريخى من لغات مختلفة تركية وفرنسية وإنجليزية وإيطالية وبالطبع العربية التى تشغل الحيز الأعظم. 

وترجع الدعوة للتأليف والكتابة والترجمة بالعامية إلى الخلط الفاحش- المتعمد أو الناجم عن الجهل- بين اللهجة التى تلازم كل اللغات الفصيحة واللغات نفسها.. ذلك أن اللغة تتألف من معجم كلمات ومنظومة قواعد، وهو ما لا يتوفر للعامية لأن معجم كلماتها فى معظمه عربى فصيح، ولأنه لا تتوفر لها منظومة قواعد رغم الاختلافات النحوية الطفيفة بين الفصحى والعامية فى أسماء الإشارة وجمع أفعال المثنى، مثل «الولدان ذهبوا» بدلًا من «ذهبا». 

والإلحاح على الكتابة بالعامية ليس جديدًا فى التأليف والترجمة، فقد صدرت من قبل رواية مصطفى مشرفة «قنطرة الذى كفر» فى مطلع الستينيات، ثم كتاب لويس عوض «مذكرات طالب بعثة» ١٩٦٥، ومسرحية شكسبير «عطيل» عام ١٩٨٩، ثم مسرحية شكسبير «حلم ليلة صيف» فى ٢٠١٦، و«رسالة الغفران» لأبى العلاء المعرى فى ٢٠١٦، وبلغ الأمر أن حصلت رواية كُتبت بالعامية اسمها «المولودة» على جائزة أدبية مرموقة. 

ويذهب كل أولئك المؤلفين أو المترجمين إلى أن العامية لغة، ويخلطون إما عن جهل أو عمد بين اللهجة واللغة، ويبررون ذلك فى الأغلب الأعم بقولهم إن «العامية» مقروءة ومفهومة خلافًا للفصحى.. ومن هنا يبدأ الوهم، إن لم يكن الدجل، ذلك أن أحدًا لا يعرف قارئًا يتجه إلى باعة الكتب ويسألهم كتابًا بالعامية لأنه يحسن القراءة بالعامية ولا يحسنها بالفصحى! فالذى يقرأ يقرأ الحروف العربية، خاصة أن الفصحى لم تعد لغة عسيرة فى الصحف والإذاعة وغيرها.

ومن المفهوم أن تتوجه فنون مثل السينما والإذاعة وشعر العامية والمسرح إلى العامية، لأن تلك الفنون تخاطب قطاعًا واسعًا ربما يكون عدد ضخم فيه لا يحسن القراءة، لكن من السخف أن تتجه العامية تأليفًا وترجمة إلى الكتاب المطبوع، الذى لا يسأل عنه سوى قارئ! 

إن كل من قاموا بتلك المحاولات كتبوا أو ترجموا إلى العامية القاهرية، وإذا كان من حقهم اعتماد العامية القاهرية «لغة» لهم كما يقولون، فإن من حق أصحاب اللهجات المصرية الأخرى «الصعيدية، وبدو سيناء، والسواحلية، وسكان النوبة» اعتماد لهجاتهم المحلية لغات يكتبون ويترجمون بها، فيقوم أدباء الصعيد بترجمة تشيخوف كالتالى: «جل لى يا بوى إنت رايح سيبريا ولا ما رايحش؟».. وسوف يفضى تزوير اللهجات واعتمادها لغات إلى نتيجة واحدة: تفتيت اللغة الفصحى الميسّرة التى تجمع الوطن، مما يعنى مباشرة تفتيت الوطن ذاته بهدم أقوى مرتكزاته، أى وسيلة التفاهم والتواصل بين الجميع، ولا يكمن حل المشكلة فى اعتماد اللهجة لغة أو تحويلها إلى لغة، بل فى تطوير الفصحى وتقريبها للناس. 

أخيرًا، فقد كان تفتيت اللغة التى توحدنا، وما زال، هدفًا غاليًا منذ أن شغل المستشرقون رفاق الاستعمار الإنجليزى أنفسهم بتلك القضية، ووضع ويلهلم سبيتا كتابه «لهجات المصريين العامية» عام ١٨٨٠، وتبعه وليم ويلكوكس، أحد رجال الاستعمار البريطانى، وكان مهندسًا للرى فى مصر حين ترجم مقطوعات لشكسبير بالعامية فى ١٨٩٢، ومع أن تاريخ الدعوة للعامية لم يكن منزهًا عن أهداف أخرى، إلا أن الغالبية العظمى ممن يتحمسون لتفتيت اللغة القومية يقومون بذلك عن جهل وخلط بين اللهجات واللغات.