جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الصعود المفاجئ والانحدار السحيق

 

فى المساء يعود لشارع السرايا انتماؤه ويعود برصيفيه الواسعين الموازيين لأسوار قصر محمد على، ساحة ممتدة كجزء من المسيرة اليومية لمن يهوى التمشية واللف حول قوس الجزيرة، أو من يريدون قطع كوبرى الجامعة ذهابًا وإيابًا.

كنت فى العاشرة عندما تم وضع حجر الأساس لكوبرى الجامعة ليربط بين الجزيرة والجيزة على امتداد شارع النهضة وحرم جامعة القاهرة، وكان الوصول للجيزة قبل كوبرى الجامعة يستدعى التحرك جنوبًا بطول شارع المنيل، ثم الاتجاه غربًا لعبور كوبرى عباس والمرور بشارع القلعة، ولم يكن الأمر يخلو من فائدة المرور بالجوكى وشراء الآيس كريم بالنكهات الجديدة كالبندق والفواكه المسكرة، الجوكى مفخرة المنيل والمنافس الوحيد لكساتا جروبى والترواه بيتى كوشو.

عندما عادت سلوى ومعها أروى تجدد الخروج للجوكى بعد تناول الغداء يوم الأحد والجمعة يومى إجازة أروى من مدرسة الميرديديو. 

ظل كوبرى الجامعة منطقة خاصة للمشاة من هواة التمشية أو الجرى، فلا ترى على رصيفه سوى بعض من طلبة كليات الطب، تعرفهم من البالطو الأبيض الذى يحملونه بمباهاة على ذراعهم أو على كتفهم، ظل كوبرى خاصًا، هادئًا، يسمح لعاشقات صغيرات بالوقوف وتأمل النيل، وأن يكون شاهدًا على أحلام يتحقق بعضها، وتتوه أغلبها.. حتى حدثت ثورة يناير وتحولت الكبارى فى الصيف إلى بلكونات أو شرفات كبيرة على النيل، بدأت الظاهرة على كوبرى أكتوبر، عريس وعروس يقفان للتصوير على الكوبرى، وتركن السيارات المصاحبة لهما، وتشارك السيارات المارة بالكلاكسات وبعض السيدات بالزغاريد، مجاملة وحبًا فى المشاركة والفرح. ثم بدأت عربات متحركة تبيع حمص الشام وبعدها ساندوتشات، ومياهًا معدنية وعصائر، وعربات للتين الشوكى والفيشار والذرة المشوى، وبدأ أصحاب العربات فى رص كراسى للزبائن، وصارت الحارة الثالثة أو المجاورة للرصيف مكانًا لركنة السيارات فى الاتجاهين، وأصبحت عائلات تجلس على النيل، وتتمتع بنسمات مقابل جنيهات قليلة، فسحة أسبوعية أو يومية، لم يقتصر الأمر على أصحاب السيارات، عائلات متوسطة الحال تأتى من المناطق المكتظة، من بعيد أراقب هذه التجمعات.. الخروج من أماكن مغلقة للهواء المفتوح سيحدث أمرًا ما، تغييرًا لم أكن أتوقعه، أو أتنبأ به، لم تكن لدىّ معلومات واضحة، ومن ثم لم أستطع بلورة فكرة محددة، كنت فى حاجة للمزيد من المعلومات، ولم أستطع الاستغناء عن جمع المعلومات.. بعد خروجى للمعاش، وفتحى لمكتب المحاماة، استخدمت من يجمع لى المعلومات عن كل ما يبدو مبهمًا أو غامضًا، فى السنوات الأخيرة قبل الثورة، صار تدفق المعلومات ومظاهر التغيير كثيرة، مربكة، وكثرة المعلومات مثل قلّتها تسبب حالة من الإرباك وتشعرنا بالتعب والإعياء، تصاحبها زيادة حالة التوتر لدينا. لوحِظ أيضًا وجود بطء فى اتخاذ القرارات، ولو اتُخذ القرار فسيكون قرارًا سيئًا فى كثير من الأحيان؛ ويعود سبب ذلك إلى عدم قدرة الدماغ على معالجة كل ما سبق من معلومات وإعطاء أحكام دقيقة عنها.

خفّت حركة السير، وبدأ الشباب يجمعون طائراتهم الورقية التى تطير عالية، تحلق بأشكال نجمية وسداسية، ولها أذرع طويلة من أوراق ترفرف فى الهواء. 

على رصيف المشاة ظهرت رسومات جرافيتى جديدة، لم أر رسومات جرافيتى على الأرض منذ أيام يناير.. نزلت ميدان التحرير، فى إحدى الدوائر القريبة من ركنة السيارات المواجهة لجامعة الدول العربية، رأيت صورة الرئيس مبارك، وجهه فى دائرة واسعة وشباب يدهسون على وجهه، مررت حول الدائرة، لم تكن مخاطرة كبيرة. فقد تركت الجهاز قبل عامين فى حركة يناير ٢٠٠٩، ولم أكن وجهًا إعلاميًا، أو وجهًا يعرفه من قضوا أيامًا فى مكاتبنا، فالتعذيب والمداهمات والتحقيق مع المشتبه فيهم يقوم بها الضباط الصغار الذين لا سند لهم ويسهل التضحية بهم عند كشف أى تجاوز زائد. أما أبناء العائلات وخريجو اللغات فلهم المكاتب العلوية والتخطيط دون التنفيذ وتلقى الدورات التدريبية.

أردت أن أعرف ماذا يحدث، أن أشاهد بنفسى، وجدت وجوهًا محتقنة، وجوهًا لاهية كأنها فى نزهة، ليست هذه وجوهًا خرجت من المقبرة، هل يخرج ميت من القبر؟ الحماسة الزائدة، وإيقاع الهتاف والتأكد على عدد منها وسيرها كلها فى معنى واحد يدل على أن هناك من يقف وراءها، وأن الأمور ليست بالعفوية التى تبدو عليها.. أين التقارير؟ أين ذهبت التقارير؟ هذه الهتافات جديدة من أين جاءت؟ 

لمحت أروى مع أصدقائها.. أهلًا جدو.. وكماكرة محترفة وجهت لى طعنة وذكرتنى بجلد لن أستطيع أن أنزعه عن نفسى. 

- جدو اللواء يسرى صالح مساعد الوزير لقطاع شئون الضباط سابقًا.