جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود

 

كنت منذ أكثر من ٢٠ عامًا تقريبًا أحب كثيرًا أن أستقبل اليوم الجديد بقطع ورقة النتيجة وقراءة ما عليها من مثال أو حكمة، كان من ضمن الأمثلة التى علقت بذهنى «القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود»، هذا المثل الذى يحث الفرد على الادخار، ويجعله ثقافة لديه عند التعامل مع ما يحصُل عليه من أموال.

ولكن مع التحول الكبير الذى حدث للمجتمع وأصبح الاستهلاك سمته الأساسية ومسارًا للتفاخر، وما صاحب ذلك من انفتاح وتحول تكنولوجى كبيرين، الذى خلق بدوره رغبة لدى الشباب تحديدًا فى محاكاة استهلاكية لعوالم أخرى، نجد أن الادخار قد تراجع، وهو بالأساس كان ضئيلًا، وبالطبع ليس هذا السبب الوحيد فى تراجع الادخار، ولكنى أتحدث عن فئة وهى ليست بقليلة فى المجتمع، التى تستخدم الأموال بشكل غير ملائم، إما من أجل التبارى والتباهى، أو الاستثمار بشكل غير منظم ومجدٍ، كالاتجاه إلى شراء عقارات فى أكثر من مكان دون الحاجة إليها، أو شراء الذهب، بدلًا من أن يتم وضع الأموال فى البنوك، ذلك دون إدراك لمدى الخسائر التى تلحق بالنمو الاقتصادى للدولة جراء هذا النوع من الاستخدام للأموال، وعدم معرفة مدى ارتباط الادخار بالاستثمار والتنمية، التى ستعود عليه فى نهاية الأمر.

يبلغ معدل الادخار فى مصر، وفقًا لآخر إحصاءات البنك الدولى ١١.١٪ من الدخل القومى عام ٢٠٢٠، فى حين أن الدول المماثلة «متوسطة الدخل»، يتجاوز بها فى المتوسط معدل الادخار ٣٢٪ من الناتج المحلى الإجمالى، وفى الدول منخفضة الدخل يتجاوز معدل الادخار ٣٠٪ فى المتوسط، وإذا تمت مقارنة مصر بدول بعينها، فمثلًا دولة مثل المغرب يصل معدل الادخار فيها إلى ٢٧.٧٪، ودولة مثل بنجلاديش، وهى من الدول الفقيرة جدًا، يصل معدل الادخار إلى ٣٥٪. هذه النسب تعنى أن معدل الادخار لا يرتبط بمعدل الدخل للدولة بشكل أساسى، بقدر ما يرتبط بثقافة المجتمع، وفى مصر توجد بالفعل مشكلة فى التعامل مع الادخار، خاصة تجاه الجهاز المصرفى، فالثقافة الوهابية، ومدّها، جعلت عددًا لا بأس به من الأفراد ينصرفون عن الادخار فى البنوك انطلاقًا من مفهوم الربا!!. إذن تغلل مثل هذه الثقافة، وقلة تواجد أفرع للبنوك فى الأرياف والقرى، يحتاج من الدولة المصرية، على هامش مشروع «حياة كريمة»، أن يكون جزء منها بناء لأفرع من البنوك فى إطار عملية التحديث والشمول المالى، وعمل حملات توعوية عن الادخار من خلال آليات تحفزهم مثل، توفير برامج للادخار بصورة منتظمة، من خلال نسبة محددة من الراتب الشهرى، يتم خصمها بشكل تلقائى، ثم يتم تحويلها إلى الحساب وادخارها، ثم إتاحة إمكانية شراء المنتجات الادخارية عبر بطاقات الائتمان وبفترة سماح خالية من الأرباح، بالإضافة إلى توعية وتثقيف الشعب بأهمية ذلك عبر مؤسسات الإعلام والثقافة، سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الاقتصاد والمجتمع، والعمل على نشر ثقافة الادخار من الصغر فى المدارس والجامعات. أتذكر أننى حين كنت فى المرحلة الابتدائية كنا نتبارى فيمن يستطيع أن يدخر ويكون لديه المبلغ الأكبر فى نهاية الأسبوع، وهذا الأمر كان يحدث بتشجيع من مدرسة اللغة العربية لدينا.

بالطبع بوجه عام تراجعت معدلات الادخار على مستوى العالم بسبب تداعيات فيروس كورونا، ولكن هذه مسألة طارئة للعالم وللدول، ولكن فى مصر الأمر يختلف حيث السمة الغالبة أن نسبة الاستهلاك من الناتج المحلى الإجمالى تأتى على حساب الإدخار والاستثمار، وهنا تكمن المشكلة التى تنعكس بالسلب على الموازنة العامة وميزان المدفوعات، ومن الناحية الأخرى هناك مخاطر تواجه البيئة، فالدول ذات الاستهلاك الكبير بالنسبة لعدد السكان تنتج عنها نفايات تضر بالبيئة، كما توجد مخاطر سياسية تتعلق بالتبعية، ومدى الاعتماد على الدول الأخرى فى تلبية الاحتياجات من السلع والخدمات، ومن ثّم الضغط على الميزان التجارى لصالح الواردات على حساب الصادرات، وفى هذا السياق يمكن الإشارة إلى أن معدل الادخار فى الصين عندما وصل إلى ٥٠٪ أدى إلى مضاعفة الدخل القومى إلى أكثر من ١٠ مرات. 

بوجه عام تتكون المدخرات المحلية من مدخرات القطاع العائلى، ومدخرات الجهاز الحكومى، بالإضافة إلى مدخرات مشروعات قطاع الأعمال، والنسبة الأكبر عادة تكون من نصيب القطاع العائلى، وبالرغم من ذلك، كما ذكرت، لا يزال المعدل ضعيفًا، لا يكفى لتمويل المشاريع الاستثمارية المستهدف تحقيقها، التى المنوط بها رفع مستوى معدلات النمو ومستويات المعيشة، ومن ثمّ بدلًا من أن يكون الادخار وسيلة للاستثمار، تقوم الدولة بالبحث عن وسيلة أخرى لسد هذه الفجوة بينهما من خلال الاعتماد على اللجوء إلى التمويل الخارجى، وهذا أمر غير مستحب لما له من آثار سلبية على الاقتصاد. من المعروف أن الادخار المصدر الأساسى فى تمويل الاستثمارات، حتى وإن تواجد تدفق لرءوس الأموال الأجنبية، فالادخار من خلال تمويله المشروعات التنموية يُكسب الاقتصاد المصرى فرصًا لاستغلال هذه المدخرات فى القطاعات الإنتاجية المختلفة، ويساعده على الوصول لما يستهدفه من وصول معدل النمو إلى ١٢٪، ومعدل استثمار إلى ٣٠٪ بحلول عام ٢٠٣٠، كما أنه كلما كان معدل الادخار كبير تصبح الدولة قادرة بشكل أكبر على امتصاص الصدمات والتعامل معها بصورة أكثر مرونة. 

يمثل العمل على غرس ثقافة الادخار أمرًا مهمًا ومُلحًا الآن، من أجل إحداث التنمية بمفهومها الشامل، وهذه الثقافة تتطلب التكامل فى العمل والتنسيق بين المؤسسات التى لها علاقة بالادخار والاستثمار من ناحية، والمؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية من الناحية الأخرى، وحث الأفراد على الادخار وعدم الاكتناز، حتى لغير الراشدين منهم كما فعلت اليابان وألمانيا.