جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

إخضاع الكلب: محاولات متخيلة لمغادرة جوف الحوت

يكتب أحمد الفخرانى رواية «إخضاع الكلب» عما يدور بعقل شخص مأزوم، لا تستطيع أغلب الوقت الجزم بحقيقة الأحداث من عدمها، الراوى هو بطل العمل، هارون عبدالرحيم المصور الشهير الذى تعرض لأزمة فقرر جراءها ترك عمله وحياته والانعزال عن العالم، يأخذنا الفخرانى خلال خمسة فصول فى رحلة مضطربة ومربكة، يحكى هارون عن ماضيه وحاضره، أحيانًا ما تصدقه وتشفق عليه، يدمى قلبك مما تعرض له من مآسٍ أنهت على حياته الهانئة، فى أحيان أخرى تظن أنه كاذب، شخص بائس يتلاعب بالأحداث ليثبت للقارئ صحة وجهة نظره، مجرد مريض نفسى يطمع فى تعاطف الآخرين مع مأساته المتخيلة.

فى البداية نعرف بخوفه من الكلاب، كلها بلا استثناء، حتى المستأنس منها، وكعادة كل بطل كلاسيكى، كلما هرب من شىء يخشاه، تجسد أمامه، فى بداية خادعة يقنعنا الفخرانى أنها مجرد رواية كلاسيكية تتمحور حول بطل مأزوم وزوجة خائنة وعشيق كان يومًا ما صديقًا، بطل صعق من الخيانة فغادر بعيدًا، أجر بيتًا فى مكان لا يعرفه فيه أحد ومكث مكتئبًا يتجرع مرارة الخيانة، تظهر «أسما» كما الأفلام الكلاسيكية تمامًا، فتاة تشع فتنة تقترب منه وتقتحم حياته، نظن أنها القصة المعتادة ونتوقع الأحداث بانتظار جرعة من التشويق تعقبها نهاية سعيدة.

يتلاعب الفخرانى بقارئ روايته، تظهر أسما بحياة هارون، تخترق جدار عزلته عنوة، تهدم كل دفاعاته وتمر، يمنى نفسه بونس، بحياة جديدة ومغادرة نهائية لعتمة جوف الحوت الذى يمكث داخله، تنتهى القصة الكلاسيكية، تختفى أسما، يستيقظ هارون فيجد كلبًا بباحة منزله، تركت الفاتنة الكلب «ونيس» بمنزل المرتعب الأبدى منها، تطمئنه برسالة: سأعود، من فضلك اعتنِ به، ثلاثة أشهر فقط وسآتى لأخذه، انتظر ليالى سعيدة.

يأخذنا الفخرانى فى رحلة داخل عقل هارون، يحكى عن رجل يقرأ بيأس ويدخن بأمل، ينتظر الموت أو بالأحرى يسعى إليه، شخص لا يأمن شر الكائن العاقل الوحيد على الأرض، فكيف يأمن الكائنات غير العاقلة والتى لا يمكن توقع ردود أفعالها. 

العلاقة بين هارون والكلب «ونيس» معقدة، محاولات متبادلة لإخضاع كل منهما للآخر، شد وجذب، خوف ثم رعاية، تقارب وحميمية، محاولات هروب، عنف ولطمات.

يجعلنا هارون نفكر، يطرح الأسئلة ولا يقدم الإجابات، يجبرنا على التساؤل: هل للوحدة جدوى؟ هل هى ملاذ آمن؟، هل هى حل أم محاولة فاشلة للهرب؟، هل لو ابتعدت، أغلقت الأبواب والستائر، تدربت على الفظاظة حتى ترغم الناس على احترام عزلتك، سيمنع ذلك عقلك على اجترار الذكريات؟

يعيش هارون بمدينة دهب بجنوب سيناء، يبعد مسكنه مئات الكيلومترات عن الحى الذى يقطنه صديقه الخائن، وآلاف الكيلومترات عن زوجته الألمانية بربارا وابنه آدم، ورغم بُعد المسافات لا يستطيع الانسلاخ عن ماضيه، يجتر الذكريات طوال الوقت كميت يرى كيف يسير العالم من دونه.

يصور الفخرانى بطل روايته كشخص يجلس ساكنًا فى عتمة جوف حوت لا ينتظر خلاصًا دون الموت، لم ير بمدينة دهب جمالًا، لم يألف سحرها، هى بالنسبة إليه مجرد سجن يقضى به طوعًا ما تبقى من عمره، لم يتعمق الفخرانى فى وصف دهب كمدينة يقصدها الكثيرون لبدء حياة جديدة، لم يستغل المدينة مطلقًا فى روايته فظهرت كهامش، أظن أن ذلك متعمد، فالمكان بالنسبة للبطل مجرد سجن ليس أكثر.

بطل الفخرانى هو الراوى، هو المتحكم الأوحد بالسرد، يحكى عن الخيانة، الخذلان، الهروب بحثًا عن نسيان دائم، عن أسما التى ظهرت فجأة بحياته ثم هربت بعد أن سرقت أمواله، عن الكلب ونيس والقصة الكلاسيكية لصداقة تلوح فى الأفق بين رجل وكلب يجمعهما الوحدة.

يصعب الفخرانى الأمر، مع توالى الفصول يشعر القارئ أن الكتابة باستخدام تكنيك «ضمير المتكلم» ترمى إلى حيلة، هارون راوٍ غير عليم، بالأحرى غير صادق، يتلاعب بالأحداث ليؤكد فرضيته، نتشكك فى رواياته المختلفة، ربما زوجته لم تخنه، مثلما لم تسرقه أسما، صديق عمره لم يغادر مصر ويلحق بزوجة هارون بألمانيا، ربما لم يمس امرأته أبدًا مثلما ادعى. حنينه لابنه أغلبه زائف، كان يظن أنه ليس من صلبه، حتى علاقته بالكلب ونيس لم تكن طمعًا فى رفقة تؤنسه، هدفه كان الإخضاع، السيد والعبد، خلق نسخة منه، مسخ يشبهه، صرح هارون بذلك فى لحظة ضعف، يقول: ربما لم أتحصن بالعزلة هربًا من مسوخ اليقظة، بل فرارًا من مسخى أنا.

حاول هارون إخضاع كلبه «ربما المتخيل»، لا نعرف يقينًا هل أخضعه أم خضع له، الأكيد أنها كانت محاولته الأخيرة لإخضاع الحياة بإبراز مسخه الذى طالما أخفاه.