جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

مدينة للتراث عند أقدم معبد

منذ سنوات طويلة ونحن نسمع عن حكاية سيدة أجنبية جاءت إلى المعبد وندهتها روح المكان فقررت أن تعيش هناك.. سافرت إلى بلادها مرة وحيدة، ثم جاءت إلى أبيدوس وظلت هناك.. بنت بيتًَا صغيرًا وعاشت وسط الأهالى الذين أحبوها وفتحوا لها بيوتهم وقلوبهم حتى ظنها البعض منهم سيدة مبروكة تعالج المرضى وتعطف على الفقراء منهم من فيض محبتها.. وعندما ماتت.. وجدوا من يخبرهم بوصيتها.. أن تُدفن فى هذه الأرض فى مواجهة أقدم معبد فى التاريخ.

تلك الرواية التى يحفظها معظم أبناء سوهاج من جيلنا والأجيال السابقة لنا.. والتى تختلط فيها الحقائق بالأساطير.. لا تختلف كثيرًا عن روايات يرددها الأهل هناك باعتبارها حقائق لا تقبل التشكيك.. يرددونها فى مسامراتهم ويمصمصون شفاههم ثم ينهون أحاديثهم بجملة «شوف الأجانب عارفين قيمة بلدنا إزاى وإحنا مانعرفش»؟!

أبيدوس ذلك الاسم الذى يعرفه الملايين من أهل الأرض.. ليس مجرد معبد.. هو الأقدم نعم.. لكنه الخير كله بالنسبة لأهلنا هناك.. ينتظرون من يجىء من أحفاد إيزيس ليلملم أشياءه وحكاياته ويجعل منه مقصدًا عالميًا كما هو اللوفر أو أى من المتاحف العظيمة فى كل بقاع الدنيا..

سنوات طويلة مضت ونحن نسمع عن قصص التطوير.. وتحويل سوهاج إلى مزار سياحى حقيقى.. وزادت الأحلام أو اقتربت حينما أصبح هناك مطار دولى.. ومن بعده افتتاح متحف سوهاج على النيل.. وأخيرًا عندما جاءت «حياة كريمة».

الأهل فى سوهاج.. بلد مينا موحد القطرين لا ينظرون إلى هذه المبادرة الفذة باعتبارها «شوية مبانى» سواء مستشفيات يحتاجونها فعلًا أو مدارس يحتاجها أبناؤهم بشكل أكبر.. أو حتى مجرد إصلاح لبيوت مهدمة.. أو توصيلة مياه.. أو شق طريق ورصفه.. هم يصدقون فعلًا أنها جسور جديدة ينتظرونها من أيام محمد على لتنقلهم إلى الحياة التى يشاهدونها فى الخارج الذى تعودوا السفر إليه أيام الشقاء..

يعتبرونها.. فرصة عمل جديدة بالقرب من منازلهم.. وشهادة نجاح أهم من «الليسانس» والبكالوريوس لأولادهم.. يعتبرونها «الكنز» الذى ظلوا ينقبون فى جبالهم بحثًا عنه منذ سنوات طويلة لكنه لم يكشف لهم عن سره.. نفس السر الذى تحتفظ به حجرة وبئر حلول الروح فى معبد أبيدوس.

باختصار يحلم أبناء سوهاج بطفرة كبيرة فى مجال السياحة.. وهم على حق.. فأخميم وحدها تعوم على مدينة سياحية كاملة.. وتمثال ميريت آمون- الأجمل فى العالم- لا يزال شاهدًا شامخًا فى مدخل مقابرها.. مدن المنشأة والبلينا أيضًا ما زالت تحتاج لسنوات لكشف أسرار خزائنها.

وهم لا يبالغون عندما ينظرون إلى حرير أخميم بأنه كنز آخر لا يقل عن كنوز الأرض.

لقد كانت أخميم إحدى أهم مدن العالم فى إنتاج وتصدير الحرير اليدوى تشاطرها ذلك مدينة نقادة فى قنا.. فلماذا لا نعود لنفعل ذلك مجددًا؟

منذ سنوات ليست ببعيدة أُنشئت مدينة النسيج بالقرب من أخميم.. بنوا ١٥٠ منزلًا بها ورش تسع ١٥٠ نولًا لغزل الحرير اليدوى، ويقيم بها ١٥٠ عاملًا هم الأندر فى العالم، ولأنه لم يكن هناك اهتمام حقيقى بالمشروع أهملناهم لسنوات.. قبل أن يشيد الرئيس بإنتاجهم أثناء زيارته محافظة أسوان الشهر الماضى.. فبدأ العمال والصنايعية هناك يحلمون بصيغة جديدة.. هم يحلمون أن تتحول ورشهم إلى مدينة كاملة للتراث.. أن تكون هناك مدرسة لتعليم الشباب ذلك الفن النادر.. أن تكون هناك مزارع على آلاف الأفدنة لزراعة التوت الذى ينتج «دود القز» المستخدم فى صناعة الحرير.

نفس الحلم يشاركهم فيه أبناء جزيرة شندويل القرية النادرة التى يعمل بناتها فى مهنة أكثر ندرة وهى صناعة «التلى».. تلك الصناعة التى فتحت مئات التساؤلات عنها بعدما شاهدوا إنتاج بنات سوهاج يزين افتتاح أهم مهرجانات السينما فى العالم.

أعرف أن وزارة الثقافة تسعى حاليًا لإدراج التلى كأحد فنون الصعيد فى اليونسكو بعدما نجحت فى إدراج السيرة الهلالية والأراجوز ومنتجات «النخلة» كتراث لا مادى.

إذن لا يحلم أهلى فى سوهاج فى الفراغ.. أحلامهم حقيقية وليست أحلام يقظة.. هم يطلبون بالفعل أن تكون هناك طريقة جديدة للتعامل مع ملف صناعة الحرير اليدوى وصناعة التلى غير تلك التى تتعامل بها وزارة التضامن.. لسنوات طويلة نحن لا نقدّر قيمة هذه الصناعات النادرة التى يمكنها إذا ما جرى الأمر وفق دراسات اقتصادية أن تكون موردًا لعملات صعبة نحتاجها وباب رزق لا مثيل له.. فكرة إنشاء مدارس متخصصة لتعليم أولادنا فنون صناعة الحرير والتلى والكتان قبل أن يرحل الآباء القليلون الذين لا يزالون يعملون هناك فى ظروف صعبة- أمر عاجل ويحتاج إلى تدخل عاجل أيضًا من مسئولى مبادرة «حياة كريمة» ووزارتى الصناعة والسياحة.

أن تكون هناك مدينة كاملة للتراث فيما بين معبد أبيدوس الأقدم فى العالم وأخميم ذات التاريخ الأثرى المدهش.. وبجوار النيل.. بالقرب من المطار الدولى وعلى طريق المدن الجديدة.. أمر مغرٍ ولا أعرف لماذا يتخاذل أبناء سوهاج من أصحاب رأس المال عن إقامة مشروع كهذا.. ربما هم لا يصبرون لكن الحكومة تبحث عن المستقبل وليس عن المكسب السريع والشره كما يفعل رجال الأعمال حتى وإن كانوا من أبناء المدينة.

عشم أحفاد مينا لا يقف عند هذه النقطة.. حلم مدينة «التراث» يمتد إلى الثقافة.. هم يحتاجون إلى قاعات سينما.. ومسرح شعبى يعرضون عليه فنونهم النادرة- السيرة الهلالية مثلًا- واستعادة ثقافة الأدوات المنزلية المصنوعة من الفخار حلم أيضًا- هم يفكرون من جديد بشكل مختلف بعدما أعادت لهم «حياة كريمة» أهم ما فيهم.. قدرتهم على استعادة ذاكرة الحلم والتفكير للمستقبل.

المستقبل على بعد خطوات فى كل شبر من محافظات الصعيد التى عانت لسنوات طويلة من إهمال الحكومات وظلم الجغرافيا.. الجغرافيا نفسها التى منحت بلادهم أغنى الثروات التى لا تزال مدفونة فى باطن الجبل من الفوسفات إلى الذهب.

الجغرافيا ليست وحدها.. فالتاريخ أيضًا شمر عن ساعده ويطلب من الجميع استعادته هناك عند باب المعبد.