جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

العدل الاجتماعى بإيقاع ٢٠٢٢

حزمة القرارات التى أصدرها الرئيس السيسى بالأمس لها دلالة مهمة للغاية، القرارات صدرت أثناء اجتماعه مع وزير المالية ومجموعة من نوابه.. الرئيس عادة يجتمع يوميًا مع وزراء ومسئولين فى ملفات مختلفة، ويُصدر قرارات يعلن عنها فى نهاية يوم العمل، أو الجزء الأول منه.. لكن الاجتماع مع وزير المالية له أهمية خاصة، والقرارات التى تصدر فيه تمس المصريين جميعًا.. وهى غالبًا ما تتعلق بالموازنة العامة، أو بالأجور، أو بالتعيينات، أو بالضرائب.. قرارات الأمس أكثر من مهمة لأنها تؤكد انحياز الدولة لفكرة العدل الاجتماعى، والحرص عليها مهما كانت صرامة إجراءات الإصلاح الاقتصادى.. أهم القرارات بالنسبة لى كانت توجيه الرئيس بتعيين ثلاثين ألف معلم سنويًا، ولمدة خمس سنوات، والمعنى هو تعيين مائة وخمسين ألف معلم يحتاجهم التعليم العام فى مصر.. بشكل شخصى كنت أتمنى أن يرتفع الرقم لثلثمائة ألف معلم.. لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، وأنا أثق فى أن الرئيس سيسارع لزيادة العدد فور تحسن الظروف.. أهمية هذا القرار أنه يخالف تكهنات، وشائعات كانت تقول إن الإصلاح الاقتصادى يفرض علينا عدم تعيين موظفين جدد فى الجهاز الإدارى للدولة.. القرار يقول إن مصر تتخذ قراراتها وفق ظروفها ومصالحها الخاصة، لا وفق تصورات هذه الجهة أو تلك.. مقبول جدًا أن تسعى مصر لتقليص جهاز إدارى مترهل، معظم العاملين به بلا وظائف حقيقية.. لكن عندما يحتاج التعليم لمدرسين يسدون نقصًا حقيقيًا، ويشغلون أماكن فى المدارس التى يتم بناؤها ضمن مشروع حياة كريمة، فإن مصر تقدم فورًا على هذه الخطوة، حتى لو كلفتها رواتب المدرسين أعباءً مالية إضافية، هذا إنفاق فى محله، ورسالة حول اهتمام راسخ بالتعليم العام، هذا الاهتمام يعبر عن نفسه فى آلاف المدارس التى يتم بناؤها فى القرى ضمن «حياة كريمة»، وفى تطوير وتحديث للمناهج أراه موفقًا جدًا، وعبر اعتماد مبالغ إضافية لتوفير وجبة غذائية آدمية للطلاب، وأخيرًا عبر سد النقص فى أعداد المدرسين، القرار يحل ضمنيًا مشكلة ٣٦ ألف مدرس من المتطوعين كانوا ينتظرون التعيين، ويعتبرون أنه تم خداعهم بشكل ما، وهم لا يعرفون أن مصر لم تعد تعامل مواطنيها بهذه الطريقة، وهو أيضًا يوفر عملًا مستقرًا لثلاثين ألف خريج مؤهل سنويًا، برواتب ثابتة، وضمانات اجتماعية كاملة، وهو أيضًا يرد على أبواق متربصة تتصيد هنا وهناك، وتدعى أن هناك اهتمامًا بالحجر يفوق الاهتمام بالبشر.. والحقيقة أن تنمية الحجر تخدم البشر، وأن تطوير البشر يساعدنا على مزيد من تطويع الحجر.. لكن أكثرهم لا يعلمون..

أما القرار الثانى الذى لا يقل أهمية ودلالة فهو قرار الرئيس برفع الحد الأدنى للأجور، ليصبح ٢٧٠٠ جنيه، بعد قرار أصدره منذ وقت قريب برفعه ليصبح ٢٤٠٠ جنيه، ومن الواضح أن الزيادة الأخيرة والسريعة جاءت لمجاراة زيادة معدلات التضخم العالمى.. والمعنى أن الدولة تشعر بأعباء المواطن، وأنها لا تعمل بطريقة تسديد الخانات، حيث كان يمكن التعلل بأنه تمت زيادة الحد الأدنى مؤخرًا، بعد ثبات لمدة عشر سنوات، حيث لم تقرر حكومة أحمد نظيف أن الحد الأدنى للأجور فى ٢٠١٠ هو ١٢٠٠ جنيه إلا بعد حكم قضائى ألزم الحكومة بذلك، الآن الوضع مختلف، وإن كانت الأعباء أكبر على الجميع.. لكن طريقة التفكير فى المواطن مختلفة.. نفس الأمر ينطبق على قرار منح العلاوات للموظفين القدامى، الذى يعنى أيضًا رفع الرواتب لمجاراة أزمة التضخم العالمى.. فى التحليل الأعمق، ستجد أن الرئيس يطبق رؤيته فى فكرة الحماية الاجتماعية، هو يساعد من يعمل، حتى ولو عمل بسيط، يرفع راتبه ليشجعه على مزيد من العمل، وليشعر بجدوى عمله، وفى نفس الوقت لديه رأى أعلنه مرارًا حول عدم إيمانه بتقديم دعم مجانى لمن لا يعمل، لأن هذا يساعده على مزيد من عدم العمل، هو يريد مساعدة أصحاب الرواتب الصغيرة، والشباب، وأصحاب المشاريع الصغيرة، كى يواصلوا عملهم، ينجحون، فيستفيد المجتمع كله من ناتج هذا العمل، وجهة نظر متكاملة، ووجهة نظر تستحق الاحترام، حتى لو اعتاد البعض على سنين من رشوة الحكومات لهم كى يواصلوا النوم تاركين الأمور على حالها.. لكن خطوات الرئيس تقول إنه يريد أن يشارك الجميع فى نهضة بلادهم بالعمل، واكتساب التأهيل اللازم، فى التحليل النهائى فإن الرئيس فى كل خطواته يسعى لتحقيق العدل الاجتماعى بلغة العصر، ويحنو على الطبقات البسيطة من خلال محاولة دائمة لإدخالها سوق العمل، ويوفر اعتمادات إضافية لزيادة أجر من يعمل، ولا يحب أن يعطى من لا يعمل.. وجهة نظر واضحة، وقوية، وصادقة حتى لو تعامى البعض عن رؤية مدى صدقها.