جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

وداعًا وعليهم جميعا رحمة الله

الموت هو الشئ الوحيد والأوحد الذى يساوى بين البشر جميعًا ومطلق البشر بلا تمييز وبلا استثناء، فالموت يدركنا جميعًا حتى لو كنا فى بروج مشيدة، ففى الموت يتساوى الجميع المسلم والمسيحي والغير مؤمن، القوى والضعيف، الأسمر والأبيض، الوزير والخفير، الغنى والفقير.
وهذه هى سنة الله فى خلقه، كما أن هذا يؤكد وحدانية الإنسانية التى تجمع بنى الإنسان على اختلاف تنوعاته، ولذا فإذا كان الموت مقدرًا على الجميع بإرادة الخالق سبحانه وتعالى فإن الله هو أيضًا الذى خلق الإنسان وأحبه وكرمه وسخر له سائر المخلوقات، فهل أحب الله الإنسان وسخر له سائر المخلوقات وحد من سيكون؟ يعنى هل حدد الله أن يكون مسلمًا أو مسيحيًا أو يهوديًا أو بوذيًا أو غير ذلك؟ بالطبع لا فالمقصود هو الإنسان.
ولذا فكان الخالق الذى أراد للإنسان أن يختار ما يريد (من شاء فليومن ومن شاء فليكفر). وذلك لأنه هو الواحد الوحيد الذى سيحاسب هذا الإنسان على أعماله وحسب معتقده (من ليس لهم ناموس هم ناموس لأنفسهم) هنا وعلى ذلك من ذا الذى يملك أن يحاسب البشر غير الله؟ وهل هناك دين سماوي أو غير ذلك أعطى لبشر قدرة حساب الإنسان بعد وفاته؟ بالطبع لا وألف لا.
إذن لماذا يعطى البعض لنفسه الحق فى أن يعلن أن هذا الذى توفاه الله مؤمن وسيكون قدره فى الجنة أو الفردوس وذاك مصيره جهنم والنار وبأس المصير؟ وهذا يعنى أن من يفعل ذلك فهو متجاوز لقدرته الإنسانية ومتطاول على القدرة الإلهية، متدثرًا ومتخفيًا وراء فهم خاطئ وإدراك قاصر ورؤية مرتبكة وفكر مختل وذات متدينة متضخمة، أى أن فعل ذلك لا علاقة له بأى دين ولا صلة له بأى فكر دينى سليم ولكن له علاقة بتصفية الحسابات السياسية والدينية والقبلية والطائفية.. إلخ.
تلك التصفية التى تستغل حالة الوفاة لممارسة هذه التصفية الممقوته والمرفوضة، نرى الكل يدعى أنه هو الحائز الأوحد بالجنة والنعيم وغيره إلى الجحيم، فهل حجز الله الجنة والفردوس والنعيم لدين واحد عدا جميع الأديان؟ يعنى الفردوس لثلاثمائة مليون أرثوذكسى وباقى المسيحيين إلى جهنم؟ هل الجنة لمليار ونصف مسلم وليذهب باقى العالم إلى الجحيم؟ نرى الكاثوليكي يجعل الأرثوذكسي مهرطقًا والعكس صحيح، نرى السنى يكفر الشيعى والعكس صحيح، بل نرى كل متدين يرى نفسه أنه ضمن الفرقة الناجية دون سواه من صاحب ذات الدين. هنا هل يليق إنسانيًا ودينيًا وأخلاقيًا وذوقيًا.. إلخ.
أن نرى من يكفر هذا ويحكم على ذاك بنار جهنم؟ هذا حدث بعد وفاة المفكر والأستاذ دكتور جابر عصفور، وبعد وفاة المناضلة الناصرية الوطنية تهانى الجبالى، وبعد رحيل الأخ والصديق العزيز الإعلامى وائل الإبراشى.. فهل يا من أطلقتم أحكامكم تملكون هذا؟ وهل تتصورون أنكم مخلدون ولن ترى أعينكم الموت؟ وهل وجهة نظركم وقناعاتكم هى الحقيقة المطلقة التى إذا لم يؤمن بها غيركم يصبحون كفرة وخارج رحمة الله التى وسعت كل شئ؟
هنا نقول نعم من حق كل صاحب دين أن يؤمن بصحة دينه وصحيح عقيدته، وألا لماذا اعتنق هذا الدين دون سواه؟ ولكن فى ذات الوقت لابد أن نضع فى حسابنا جميعًا أن هذا الحق هو حق لكل من يؤمن بدين مستوى أو غير سماوى، هنا كنت متدينًا كما تريد وكما تعتقد ولكن لا علاقة لك بغيرك سوى بأن تكون مثلًا صالحًا لدينك فى أعمالك وسلوكياتك مع الآخر.
أعلم أن الله هو المحاسب، وأدرك أن الله رحوم بما خلق، وأطلب الرحمة من صاحب الرحمة والقادر عليها أن يرحم الجميع على أرضية الإنسانية الواحدة بعيدًا عن (أرحم موتى المسلمين) (والسماء لشعب كنيسته).
هنا لا أملك غير الرحمة الدكتور عصفور والمناضلة تهانى الجبالى والصديق الذى تزاملنا سويًا فى طرح القضايا الطائفية (الأسلمة والتنصير) ولأول مرة فى الإعلام المصرى العزيز وائل الإبراشى.
الرحمة لهم ولكل الأموات من كل الأديان عملًا بالقيم الدينية والإنسانية التى تقدر الإنسان كل إنسان.. حمى الله مصر والمصريين من تجار الدين فى كل زمان ومكان وفى كل الأديان.