جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

حلمى التوني: أخوض حربًا سلمية لاستعادة الهوية المصرية من خلال الفن (حوار)

حلمى التونى مع محرر
حلمى التونى مع محرر «الدستور»

منذ ستينيات القرن الماضى واسم حلمى التونى، الفنان التشكيلى الكبير، يسطع على أغلفة الكتب، ويتردد فى أوساط صناعة النشر والأدب، ليس فى مصر وحسب، بل فى الوطن العربى بأكمله.

أعماله الفنية المبهرة جواز مرور لأعين القراء وأفئدتهم، فيما قدمه فى تجاربه الصحفية منذ عمله فى دار «الهلال»، وكذلك أغلفة إصدارات دور النشر، تلك الألوان النضرة التى يستخدمها فى محاولة لنشر البهجة، والأهم من ذلك كله أن ريشته ظلت تبحث عن الهوية البصرية المصرية طوال ٦ عقود، من خلال ما قدمه من أعمال وأدب للأطفال.

سيرته تاريخ للأدب والصحافة، والسياسة أيضًا، فقد عاصر وعمل مع كبار الكتاب ومن بينهم أحمد بهاء الدين ومحمد حسنين هيكل وصلاح جاهين، الذين يعتبرهم أساتذة له، وحقيقة الأمر لم تكن العلاقة تقف عند أستاذ وتلميذ، بل هى علاقة فيها من الندية والمشاركة فى رسم واقع الثقافة الكثير.

No description available.

■ هل أثرت نشأتك الريفية على إبداعك الفنى؟ 

- كل كتبى تدور حول الانتماء للوطن، وآخرها كتاب صدر لى بعنوان «صاحبة الجلالة»، وهو كتاب مرسوم يتضمن ١٠ لوحات زيتية كبيرة مقدمة للأطفال والكبار أيضًا.

«صاحبة الجلالة» بالنسبة لى فى هذا العمل وغيره هى «الجاموسة»، التى أعتبرها شيئًا مهمًا فى حياة المصريين الأصليين، أى الفلاحين.

والفلاحون يقدرون «الجاموسة» كثيرًا، ويعتبرون الفلاح الذى ليس لديه «جاموسة» كأنه «عارى»، لذا لعب هذا الحيوان دورًا عظيمًا فى حياة المصريين، ونافس الإلهة البقرة «حتحور» عند الفراعنة، ثم حل محلها لاحقًا.

■ مَنْ وجّهك لرسم أغلفة الكتب والروايات حتى أصبح رصيدك الحالى يصل إلى ٤ آلاف غلاف لكتاب ورواية خلافًا للمجلات؟

- الدكتور عبدالسلام الشريف، الأستاذ بكلية الفنون الجميلة، كان أستاذى، وكان يسارى النزعة، وهو ما توافق مع أفكارى وقتها، رغم أننى لم أكن أعرف شيئًا عن الفكر نفسه.

وكنا ضمن الدراسة نقدم كل فترة مشروعًا فنيًا، وإذا به يطلب منى فى يوم من الأيام رسم غلاف رواية «زقاق المدق» للأديب العالمى نجيب محفوظ، ورسومها الداخلية، وكانت قد صدرت حديثًا، وهو ما جعلنى أهتم برسم أغلفة الكتب منذ هذا الوقت.

■ كنت على اتصال وثيق بأسماء لامعة مثل أحمد بهاء الدين وصلاح جاهين وعلى أمين ومصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل.. فما أبرز حكاياتك معهم؟

- رغم أننى لست ابنًا لمؤسسة «روزاليوسف»، فقد كنت وثيق الصلة بها من خلال جسر اسمه أحمد بهاء الدين، الذى صنع مجلة «صباح الخير» التى خاطبت الشباب وقتها، وكان هو أستاذى وصديقى الأول، وتعرفت على صلاح جاهين من خلاله.

ومن أبرز الوقائع بينى وبين صلاح جاهين هو أنه تصادف أن سكنّا بالقرب من بعضنا فى حى «المهندسين»، حيث كان يسكن فى شارع أحمد عرابى، وأسكن وقتها فى شارع جامعة الدول العربية، وفوجئت به ذات يوم يتصل بى هاتفيًا ويطلب منى أن أنظر من الشباك تجاه شرفة منزله، وطلب منى أن أرسم له غلاف أسطوانة أوبريت «الليلة الكبيرة» الشهير.

وقتها سألته: «كيف أرسم غلاف الأسطوانة وأنت صاحب الدكانة ورسام كبير؟» لكن رده جعلنى أصمت، لأنه قال لى: «أنت سترسمه أفضل منى».

ومع إصراره على ذلك فعلت، وكان هذا الغلاف جواز سفرى إلى كل أنحاء الوطن العربى، لأن هذه الأسطوانة تم توزيعها على نطاق واسع، وعندما سافرت ذات مرة إلى لبنان وجدت اللبنانيين يعرفوننى من غلاف الأسطوانة.

كما أنى لا أنسى ما حدث بعد نكسة ١٩٦٧، وكنا جميعًا وقتها نتزاور لنؤازر بعضنا بعد أيام النكسة الثقيلة علينا جميعًا، ووقتها كنت فى زيارة لأستاذى أحمد بهاء الدين، الذى قال لى: «الواد صلاح جاهين تليفون بيته مغلق دايمًا، وأنا خايف يكون دخل فى نوبة اكتئاب، تعالى ودينى ليه نشوفه بيعمل إيه».

بالفعل ركبنا السيارة وذهبنا إلى منزل «جاهين» فوجدنا بابه مفتوحًا، لأنه كان فى الأغلب يستقبل سعاد حسنى وأحمد زكى بشكل دائم، لتبنيه كل منهما فنيًا، وعادة ما كان يرسل الأخير لشراء السجائر.

وعندما دخلنا إلى غرفته وجدناه يجلس وحده فى غرفة مظلمة ويدخن كثيرًا، وفوجئت بـ«بهاء الدين»، وكان هادئًا عادة وعفيف اللسان، ينفعل ويقول لـ«جاهين»: «إنت حمار؟، إيه اللى إنت عامله فى نفسك ده؟ إنت فاكر نفسك الوحيد اللى زعلان؟ كلنا زعلانين.. قوم ما تعملش فى نفسك كده».

أما عن الباقين مصطفى وعلى أمين وهيكل فإنى أكتفى بالقول: «لا تعليق»، لأن الأخير على نحو خاص هو «حكاية كبيرة».

 

No description available.

■ متى بدأت البحث عن هويتنا الثقافية المصرية فى أعمالك؟

- بداية دعنى أشير إلى أن الهوية المصرية مُعرضة للخطر، وهو خطر يأتى من الشرق الآن، فبعد أن ظل يأتى إلينا من الغرب، وانتظرناه من هناك، جاء إلينا من الشرق.

وهذه قضية تشغلنى كثيرًا، خاصة أننى أرى آثارها وتأثيرها فى المجتمع، خاصة الشباب، وهو الأمر الذى يتجلى فى انبهار هذه الفئة باللغة والطعام والملابس والثقافة فى الخارج.

هنا أؤكد أننا لسنا ضد الخارج، لكنى أرفض أن نكون «عالة» على المجتمع العالمى، وأبحث عن هويتنا ليس من أجل التباهى، لكن من أجل أن يكون لدينا شىء نقدمه فنصبح مساهمين وليس «متشعبطين فى الترماى».

■ كيف نستعيد هويتنا البصرية عبر الفن التشكيلى انطلاقًا من الريف، خاصة فى ظل تنفيذ المبادرة الرئاسية «حياة كريمة»؟

- المطلوب أن نكون أنفسنا، لأن الهوية ليست ابنة عصرنا، لكنها بدأت منذ قديم الأزل، واستعادة هويتنا تبدأ من التراث، الذى ينبغى أن يكون حاضرًا فى جميع المجالات ومنها الرسم، خاصة أن مصر تتميز بمرور العديد من الحضارات عليها وتعددها، وكذلك الغزوات منذ أيام الهكسوس حتى العرب فى عصورنا الحديثة.

هذه التراكمات أثرت فى الهوية المصرية، وتسببت فى إحداث حيرة، فالمصرى أصبح حائرًا، وأنا مصرى حائر، وحيرتى هذه بدأت تظهر فى ثمانينيات القرن الماضى، خاصة بعد عودتى من قضاء ١٢ عامًا فى لبنان، وتحديدًا عام ١٩٨٤. وقتها بدأت أعيد تفكيرى ونظرتى لمصر بعد أن لاحظت تغيّر مصر التى تركتها فى سبعينيات القرن الماضى، فشعرت ببداية مسلسل فقدان الهوية الذى بدأ عن طريق الجماعات المتأسلمة، والتأثر بـ«الوهابية» التى جاءت إلينا عبر شبابنا الذين سافروا وعادوا، وكان الرئيس السادات مشجعًا لهذه التيارات، وعلى سفر المصريين إلى الخارج، لكن بعد رجوعهم عادوا إلينا بمصيبة تهدد هويتنا المصرية.

ولذلك افتتحت أول معرض لى عام ١٩٨٥، وكان معرضًا ناجحًا، لكنه على الطريقة الغربية التى تأثرت بها فى كلية الفنون الجميلة، ثم توقفت من أجل البحث عن هويتنا عبر أعمالى الفنية.

■ لماذا أعدت تقديم أغلفة روايات نجيب محفوظ مع إحدى دور النشر؟

- منذ أن بدأت عملى فى الصحافة عام ١٩٥٤ بعد تخرجى وجدت أن سكرتير التحرير يطلب من الرسام تصميم عبارة ما، ووقتها كنت أشعر بأن دورنا تقديم شىء موازٍ للنص، وهو ما أثار بعض المشكلات علىّ، خاصة أننى أرسم رسومات مختلفة عن موضوع النصوص.

كنت أشعر بمسئولية الدفع إلى الإمام وإحداث تغيير، وأردت تقديم أغلفة مختلفة لنجيب محفوظ عن رسومات جمال قطب الشهيرة، وهذا ما دفعنى لتقديم أغلفة ٥٢ غلافًا لروايات «أديب نوبل» بطريقة جديدة مغايرة، واخترت من أعمالى لوحات تقارب عناوين رواياته.

هذه التجربة لاقت استحسانًا ورفضًا فى الوقت نفسه، كونها تجربة ليست محافظة قدمتها لمجتمع محافظ يرفض أى تغيير أو تجديد، لكنها تتسق مع رؤيتى القائمة على ضرورة أن تحمل اللوحة وجهة نظر، ورؤية مغايرة للواقع. 

■ مَنْ أقرب الكتّاب إلى قلبك؟

- أحب الدكتور يوسف إدريس، وهو أكثر من تفاعلت مع كتاباته لأن لديه حالة من «الجنون الفنى»، وجمعتنى مواقف طريفة كثيرة به، منها أننى طلبت أن يفتتح أول معرض لى بعد مجيئى من لبنان، ووافق لأنه مهتم بمعارض الفن التشكيلى، وفى يوم الافتتاح انتظرته الساعة ٧ مساءً لكنه لم يأتِ، كما أنه تجمعنى به صلة قرابة «نسب»، من خلال زوجته «رجاء»، فهى أخت زوجة خالى.

■ كيف تُقيّم تجارب أدب الطفل المعاصرة؟

- كنت مقرر لجنة تحكيم «جائزة أدب الطفل» ضمن جوائز ساويرس المعلنة مؤخرًا، وكدت أن أحجب الجائزة نظرًا لشعورى بحالة من الاغتراب فى الأعمال المقدمة للجائزة، لكن اللجنة رأت أن تمنحها لأحد الفائزين لأنها مستحدثة.

■ لماذا تحضر المرأة بشكل طاغٍ فى أعمالك؟

- أعتبر حضور المرأة فى أعمالى جزءًا من رسالة أؤمن بها، مفادها إسعاد الناس، خاصة فى وقت تمر فيه البلاد بظروف صعبة، وأرى أن المرأة مظلومة فى مجتمعنا، ورغم شعارات المساواة فلا نزال فى طور فيلم «الزوجة الثانية».

لم أرسم طوال حياتى لوحات كئيبة، حتى فى الفترات التى حدثت خلالها تحوّلات اجتماعية فى مجتمعنا المصرى، سواء قبل أو بعد الانفتاح، وأعتبر نفسى فنانًا مهتمًا باللون، كما أننى شخصية مرحة وأحب النكات، وهذا هو سر طول عمرى.

■ ما أحب أنواع الموسيقى إليك؟

- لست مغرمًا بسماع الموسيقى الكلاسيكية، لكنى معجب بها، وأحب الاستماع إلى أغنياتنا التراثية، وتعوّدت على نشر لوحاتى على «فيسبوك» مع أغنيات، وذلك لأننى أحب الغناء.

كل يوم أصحى على لسانى أغنية، وأختار من أعمالى ما يناسبها، لأننى أدرك أن الشعب المصرى «سمّيع»، لذا تساعد الأغنية على وصول معنى اللوحة للناس، وأرى أن هذه تجربة تستحق التوثيق، لكن الكسل يسيطر على المثقفين، فهناك عدد قليل من الفنانين التشكيليين يدرك أهمية العلاقة بين الموسيقى والأغنية.

وأنا شديد الدقة فى اختيار الأغنيات، وأرى أن لدينا ثروة موسيقية كبيرة، بدءًا من أربعينيات القرن الماضى وحتى السبعينيات، منها أغنيات سيد درويش ومحمد عبدالمطلب وسيد مكاوى، وأعمال بليغ حمدى وصلاح جاهين وكمال الطويل وعبدالحليم حافظ.

وأشعر بالأسف لأن مصر لم تنجب ذرية جديدة تقدم أغنيات جميلة كتلك، وأتمنى أن يستعيد الفن دوره، عبر تسليط الضوء على جهود الفنانين الكبار، مثل ما فعله بليغ حمدى مع أعمال سيد درويش، إذ ضمّن التراث الغنائى الوطنى فى أعماله.

وأؤكد أننى أخوض حربًا سلمية، من خلال الفن، من أجل استعادة الهوية المصرية.. لست فى موقع رسمى مؤثر لكن الصنعة لا تزال معى.

■ ما آخر كتاب قرأته؟

- أقرأ الآن كتابًا للكاتب والباحث هانى حمزة، وهو كاتب وباحث مهتم بمرحلة المماليك، عنوانه «صحراء المماليك.. بوابة السماء الشرقية»، وهو كتاب رسمت غلافه. والكتاب هو رسالة الدكتوراه الخاصة بـ«حمزة»، وأنا أحب دراما فترة المماليك لأنها مليئة بالخيانة والقتل والصراع على السلطة.

■ لماذا لم تكتب مذكراتك؟

- لم أفكر فى كتابة سيرتى الذاتية رغم أن كثيرين طالبونى بذلك، فإن حكيت فلن أحكى ذكريات خاصة بل حكايات عامة. ولم أوافق كذلك على أن أروى الحكايات لكاتب ليتولى هو تدوينها، رغم أن سيرتى مثلًا فى عالم الصحافة مهمة، والتى عاصرت فيها جورجى زيدان فى «الهلال» وصولًا لمكرم محمد أحمد.