جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

عندما يشارك الفن التشكيلى فى حركة التنوير والتنمية

تنامى فى السنوات الأخيرة الاهتمام بالفن التشكيلى بشكل واضح، الذى كان فى قلب الحضارة الفرعونية للمصريين القدماء منذ ٧ آلاف سنة، فهم قد تركوا لنا إرثًا متفردًا وخالدًا فى الفن التشكيلى لا مثيل له فى العالم، ونتباهى به كمصريين أمام العالم.

ومن متابعتى لحركة الفن التشكيلى المصرى والعالمى على مدى سنوات طويلة فى إطار اهتمامى بالفنون والثقافة منذ وقت طويل، أستطيع أن أقول إنه قد أصبح لدينا، الآن، وعى مجتمعى بأهمية الفن التشكيلى، وأصبحت لدينا حركة فنية ثرية متنوعة تقدم الكلاسيكى والحديث فى هذا المجال، وهى تتزايد كل يوم.

كما لاحظت، أيضًا، تزايد دخول المرأة مجال الفن التشكيلى، بحيث أصبح لدينا فى مصر ما يمكننى أن أصفه بأنه تيار نسائى فى هذا المجال.. وهذا تقدم فى حركه تطور المرأة المصرية، وتنامٍ ملحوظ فى قدرتها على التعبير بحريه عن نفسها وقضايا مجتمعها والناس والحياة فى بلدها من خلال الفن الرفيع، وتكمن أهمية الفن التشكيلى المصرى فى كونه أحد العناصر الأساسية التى تشكل القوة الناعمة لمصر.

وبنظرة سريعة هنا على تطور حركة هذا الفن فى مصر، فسنجد أنه كان حتى الثمانينيات من القرن الـ١٩يعتبر إبداعًا فرديًا فى مصر، وكان دخول مجال الفن التشكيلى يعتبر مخاطرة؛ لأن الوعى المجتمعى به لم يكن كبيرًا، وكان رواد هذا الفن قد عاشوا قصص كفاح كبيرة وعظيمة لإثبات وجودهم على الساحة الإبداعية فى مصر، وأذكر من أشهر أسماء الرواد مثلًا محمود مختار وسيف وأدهم وانلى ومحمود سعيد وراغب عياد ومحمد ناجى وصلاح طاهر وجاذبية سرى وإنجى أفلاطون وصبرى راغب وبيكار ومحمد صبرى وحامد ندا وآدم حنين وتحية حليم، وهؤلاء مهدوا الطريق لمن بعدهم، وتركوا لنا إرثًا متنوعًا وثريًا، ثم ظهر بعد ذلك فى الثمانينيات فنانون من أعلام الحركة التشكيلية فى مصر مثل فاروق حسنى وأحمد نوار وفرغلى عبدالحفيظ وعبدالرحمن النشار، وهؤلاء أسهموا بشكل واضح فى عرض الفن التشكيلى المصرى والتعريف به ونشره على نطاقات واسعة وشكلوا ملامح واضحة فى حركة التشكيل المصرى المعاصرة.

ومن المؤكد أن الاهتمام بالفن التشكيلى وتوسيع نطاقه وتشجيع الشباب والشابات على دخول هذا المجال الفنى ودعمه بشكل عام قد تنامى مع تولى الفنان الوزير السابق فاروق حسنى مسئولية وزارة الثقافة، فقد كان فنانًا تشكيليًا قبل أن يتولى مسئولية وزارة الثقافة فى سنة ١٩٨٧، والتاريخ سيسجل له دوره الكبير فى دعم وظهور تيار كبير من الفنانين التشكيليين بمصر واهتمام الدولة به أثناء توليه مسئولية الثقافة المصرية، ثم واصل هذا الدور الرائد فى تشجيع الأجيال الجديدة وإدخال دماء جديدة إلى ساحة هذا المجال الإبداعى بعد تركه الوزارة، حيث قام بتأسيس مسابقة سنوية لشباب وشابات الفن التشكيلى بجوائز مادية، وتعرض أعمالهم فى قاعات تابعة لوزارة الثقافة المصرية لتشجيعهم على الانطلاق فى دنيا الإبداع المصرى، وفى عهده استطاع أن ينطلق الفنانون المصريون بمختلف أعمارهم واتجاهاتهم لعرض أعمالهم ولوحاتهم الفنية فى معارض خاصة أو جماعية، كما توالى افتتاح جاليريهات وقاعات لعرض أعمال الفنانين التشكيليين على مدار العام.

ومع تنامى الاهتمام بالفن التشكيلى بدأت أجيال تظهر من بعد هؤلاء، مثل فريد فاضل ونازلى مدكور ويكنور وهدى مراد ووسام مرزوق وغيرهم.

ثم فى العشر سنوات الأخيرة بدأ يظهر لدينا عدد متصاعد من النساء اللاتى توالى دخولهن هذا المجال وأصبحن يشكلن عددًا كبيرًا على ساحة الفن التشكيلى، حيث كانت تصلنى دعوات خلال السنوات الخمس الأخيرة تباعًا لنساء يرسمن لوحات من الفن التشكيلى المتميزة، الحديث والكلاسيكى، بل وتلقيت دعوات لأقوم بافتتاح معارض لهن، انطلاقًا من دعمى حركة تطوير المرأة المصرية، فتشرفت وسعدت بافتتاح معارض جماعية وفردية أيضًا وحضور افتتاح معارض لنساء وشابات مصريات على درجة عالية من الإبداع والمهارة، ولدينا الآن أسماء عديدة لفنانات تشكيليات برزن على ساحة هذا الفن الرفيع، ويتميز إبداعهن بالتنوع والتعبير عمّا يشغلهن، وهو يتضمن الفن الكلاسيكى والمعاصر، بأشكال وألوان وأساليب مختلفة، وأذكر أننى حضرت بدعوة كريمة منها معرضًا للوحات الزيتية للسيدة الفاضلة الراحلة جيهان السادات، كما أذكر من الفنانات اللاتى حضرن معارض للوحاتهن، وأكدن وجودهن على ساحة الفن التشكيلى فى السنوات الأخيرة سهير عثمان وإيمان عفيفى ورانيا أبوالعزم ورباب وهبة ومريم سامح ورندة فؤاد وعزة مجاهد وشيرين بدر وميرفت رفاعى ورانيا شوقى ومى عزت وسوزى عرفة وراوية لملوم وحورية فهيم وفريدة درويش ودينا فهمى ورشا غالب وفريدة القونى. 

وبعد ثورة الشعب فى سنة ٢٠١٣، بدأت حركة الفن التشكيلى المصرى تتصاعد، ويظهر على ساحته فنانون يطلقون العنان لإبداعهم، وتزداد حركة دخول المرأة الساحة بشكل ملحوظ يومًا بعد يوم، وهكذا توالى افتتاح معارض تشكيلية فردية جماعية، حرصت من جانبى على حضور الكثير منها بمناسة افتتاحها، وعلمت من بعضهن أنهن تدربن على أيدى فنانين تشكيليين مصريين من كبار الفنانين لدينا، ولاحظت أنهن يمتلكن شجاعة الظهور فى المعارض بلوحاتهن، وتزامن هذا مع إيجاد سوق لهن من هواة الفن التشكيلى المصرى، الذين اتجهوا إلى شراء لوحات من الفنانات المصريات لتعليقها فى بيوتهم، مما يعنى وجود وعى على نطاق أوسع عن ذى قبل.

ولم تكتف الفنانات بالمعارض المحلية داخل مصر، بل أصبحن يشاركن بعدد كبير منهن فى معارض جماعية فى الخارج، حيث أقيمت عدة معارض فى الأكاديمية المصرية بروما، وفى غيرها من الدول ولا يزال طموح الفنانات المصريات مستمرًا.

ومع بداية ٢٠٢٢ رصدت تصاعدًا ملحوظًا فى حركة الفن التشكيلى المصرى تؤكد أننا نشهد ازدهارًا فنيًا وزخمًا ملحوظًا، فيه ثراء وتنوع، مما أسعدنى وأعتبره ازدهارًا فى حركة نهر الإبداع المصرى، مما يؤكد أن الفن المصرى لا ينضب معينه، وإذا ما توقفت عند هذا الأسبوع فقط كمثال، فسنجد أنه قد تم افتتاح عدة معارض شارك فيها مئات الفنانين التشكيليين من الشباب ومن أجيال الوسط، ففى مساء الأحد افتتحت د. إيناس عبدالدايم الدورة الـ٣٢ لصالون الشباب تحت عنوان «الحلم أرض الإبداع»، بقصر الفنون بالأوبرا، وشارك فى هذا الدورة عدد كبير يبلغ ١٩٦ فنانًا قدموا أعمالًا فنية من مختلف مجالات الفن التشكيلى من الرسم والنحت والخزف والتصوير والجرافيك، كما أنه فى نفس الليلة افتتح فى معرض بيكاسو معرضان للفن التشكيلى الأول للفنانة مى حشمت والثانى للفنان عادل ثروت، كما افتتح أيضًا بجاليرى النيل معرض جماعى بمشاركة ٣ فنانات، هن نادية الخولى وغادة أبوحديد ومها عثمان، كما افتتح أيضًا معرض بجاليرى مصر للفنانة أمينة سالم، وتم أيضًا افتتاح معرض جماعى تحت عنوان «شذا المسك» بمشاركة ٤٠ فنانًا من شمال مصر وجنوبها يمثلون أجيالًا مختلفة، كما شهدت افتتاح المنتدى الدولى للفن التشكيلى، والذى أقيم بالمتحف القومى للحضارة المصرية فى دورته الأولى، وترأست المنتدى الفنانة التشكيلية رندة فؤاد والمديرة التنفيذية له الفنانة التشكيلية شيرين بدر، وكان الافتتاح متميزًا، نظرًا لأنه فى رحاب التاريخ المصرى فى متحف الحضارة المصرية المبهر، والذى يضم المومياوات الملكية ونماذج من القطع الأثرية المصرية منذ عصر الفراعنة حتى العصر الحديث، وقدم المنتدى لنا ارتباط الفن التشكيلى بالتنمية المستدامة، وألقيت كلمات لرئيسة المنتدى رندة فؤاد ولأحمد غنيم، مدير المتحف القومى للحضارة المصرية ومديرة المكتب الإقليمى لمنظمة الأمم المتحدة ود. غادة والى، وكيل مدير منظمة الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة، ود. هالة السعيد وزيرة التخطيط وأحمد شلبى، وبعد الكلمات تم افتتاح المعرض الذى يضم لوحات لـ١٥٠ فنانًا من ٣٠ دولة، كما شاركت جاليريهات ومعارض بإنتاجها فى المنتدى، ويتضمن المنتدى حلقات نقاشية على مدى ٥ أيام حول الفن التشكيلى وعلاقته بالتنمية المستدامة.

ولا شك أن الفن التشكيلى المصرى، الآن، يتقدم للأمام وتظهر مواهب جديدة فى كل يوم، ويتم اكتشافها وتقديمها للمجتمع من خلال المعارض التى تنتشر فى كل أنحاء القاهرة، وإن كانت لا تزال بعدد قليل فى المحافظات المصرية، وتوجد حاليًا طفرة فى هذا الفن الذى يعد أحد عناصر القوة الناعمة لمصر، وفى تقديرى أن معارضنا فى الداخل ليست مجرد معارض لتقديم وعرض أعمال الفنانين المصريين وبيعها للجمهور فقط؛ لأن لها دورًا أكبر من هذا وأوسع، فهى منابر للتنوير والارتقاء بالوجدان وبالذوق العام، ونشر الثقافة الرفيعة، وهى فى الخارج عندما يشارك فيها الفنانون المصريون تعد جسورًا للتواصل تقرب الشعوب وتخلق لغة للحوار والتفاهم بينها، وهى منابر لتبادل الآراء والثقافات ووسائل لتعزيز السلام والتفاهم بين الشعوب والدول.