جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

التمرد على النص المسرحى

ثمّة تغيير يحدث فى المسرح المصرى، ليس شرطًا للأفضل، ولكن فى كل الأحوال هناك حراك مسرحى يقوده الشباب، ربما فى أحيان كثيرة تشعر بأن تأثيره سلبى، لكن ثمة تغييرًا لا بد من رصده والتوقف أمامه، عنوانه التمرد على السائد والمألوف، ممثلًا فى محاولة الخروج من حزمة القواعد التى تحكم العملية المسرحية، حتى ولو كان هذا الخروج عشوائيًا فى أحيان كثيرة.

واللافت للنظر فى العقدين الأخيرين تراجع دور المؤلف المسرحى لصالح الورش والارتجال والتأليف الجماعى، أو استلهام الرواية أو الفيلم السينمائى أو الاعتماد على الحكى، ودون شك لا يمكن تعليق الأسباب على شماعة ضعف النصوص، ربما بعضها ضعيف أو بعيد عن قضايا اللحظة الراهنة، وبعيد عن قضايا هذا الجيل، ولكن ثمة سببًا لا يمكن إغفاله وهو رفض سلطة النص المسرحى بما يطرحه من أفكار، رفض هذا القالب بما يفرضه من حبكة وخط درامى وبناء عميق للنص وللشخصيات، وذلك لصالح المشاهد الخفيفة التى يغلب عليها الطابع الكوميدى. 

وهذا لم يحدث الآن، ليس وليد اللحظة، بل بدأت الظاهرة على استحياء فى تسعينيات القرن الماضى، ولكن كان الخروج/التمرد تحكمه معايير وقواعد ويحدث طبقًا لمناهج.. كانت المعرفة والثقافة المسرحية تدعمان التمرد، فكانت النتيجة مسرحًا ترك آثاره على قطاع كبير من الجمهور، خاصة من الأجيال الجديدة، بالإضافة إلى احتفاظ النص بدوره فى تلك الفترة.. وفى مطلع الألفية الثالثة تطور هذا التمرد فى عدد كبير من العروض التى يقدمها الشباب إلى طرح موضوع واحد متشابه- ربما لم يعثروا عليه فى النصوص المكتوبة- عن قهر هذا الجيل ومعاناته، ثم البكاء على الماضى ورثاء العادات والتقاليد فى قالب اعتمد على مجموعة من اللوحات التى هى أقرب فى تكوينها الفنى إلى «النمر» فى المسرح الشعبى، التى كان يعتمد فيها الممثل على القدرة البدنية وخفة اليد وطلاقة اللسان ليجمع بين فن الممثل ومهارات الأداء، وهى أقرب إلى الانتقاد الاجتماعى مع مراعاة الابتعاد عن القضايا السياسية، والانحياز إلى الكوميديا، وكلها تأتى فى سياق التمرد على النص بصورته التقليدية، والذى كان يلعب دور البطولة حتى فى عروض المسرح الراقص، أو العروض التى تعتمد على الصورة حتى تسعينيات القرن الماضى.

وفى سياق التمرد على النص والانحياز إلى السخرية والنقد الاجتماعى والتنبيط من بعيد حول القضايا السياسية، تشابهت العروض التى تدور حول تيمة واحدة، وتعتمد على الانتقاد الاجتماعى، فإذا تأملنا ما تطرحه العروض المسرحية لشريحة كبيرة من الأجيال الجديدة، بدءًا من العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، سنجد هذا الموضوع الواحد المتشابه عن قهر هذا الجيل ومعاناته، ثم البكاء على الماضى ورثاء العادات والتقاليد فى ترسيخ قوى لظاهرة تجاهل النص المسرحى المكتوب «شباب يجنن، قهوة سادة، بصى، نلتقى بعد الفاصل»، أربعة عروض على سبيل المثال لا الحصر تم تقديمها فى العقد الأول من الألفية الثالثة، الأول والثانى فى مركز الإبداع من إعداد وإخراج خالد جلال، وحققت «قهوة سادة» نجاحًا كبيرًا، وكانت وما زالت نموذجًا لعروض الانتقاد الاجتماعى والبكاء على العادات والتقاليد، ونموذجًا للعرض المسرحى الذى يعتمد فى بنائه العميق على مجموعة من اللوحات قوامها المحاكاة الساخرة لبعض الظواهر السلبية فى المجتمع، أما المسرحية الثالثة «بصى» فقدمتها فرقة مستقلة من إخراج سندس شبايك أمام مبنى المجلس الأعلى للثقافة عام ٢٠١٠ حول قهر النساء فى المجتمع، وعرض «نلتقى بعد الفاصل» فى نفس العام، وإن كان يعتمد على نص للمؤلف الشاب أحمد عبدالرازق وإخراج أحمد إبراهيم فى مسرح الطليعة، واعتمد أيضًا على نفس القالب من خلال مجموعة الاسكتشات التى تنتقد العادات والتقاليد.

ونلاحظ أن المسرحيات التى قدمها الشباب، سواء فى مسرح الدولة أو المستقل، ابتعدت عن التسييس الذى يطرح قضايا سياسية عميقة، ذات صلة وثيقة بالهم الاجتماعى والاقتصادى، ويشتبك مع الواقع كما كان رائجًا عند الأجيال السابقة، حيث لجأ هؤلاء إلى صيغ المسرح الشعبى وأساليب كوميديا النقد الاجتماعى، ومساحة الارتجال الكبيرة من خلال مجموعة اللوحات التى يتكون منها العرض والقابلة للحذف والإضافة، وتعديل العرض، وفقًا للمتغيرات والأحداث الجارية، وجميعها يعتمد على التقاط الحدث الاجتماعى الذى يشغل المجتمع مع اعتماد بعضها على الشخصية الفكاهية.

وفى العقد الثانى استمرت الظاهرة مع الاعتماد على المحاكاة التهكمية/ السخرية أيضًا من خلال مجموعة من الاسكتشات، ومنها عروض مثل «شيزلونج» إخراج محمد الصغير، «حلم بلاستيك» إخراج شادى الدالى، عرض «١٩٨٠ وإنت طالع» كتابة محمود جمال وإخراج محمد جبر، بالإضافة إلى عروض «أمين وشركاه»، وما يقدمه مسرح مصر وتياترو مصر، مع مراعاة تفاوت المستوى الفنى لهذه العروض، وصولًا إلى عرض «ريسايكل» فى مسرح الطليعة، و«هنا القاهرة» فى المسرح المستقل، و«التجربة الدنماركية» فى مسرح الجامعة، والعرضان الأخيران شاركا فى المهرجان القومى للمسرح، ومرورًا بعشرات العروض التى اعتمدت على مجموعة من اللوحات التى تنحاز إلى تيمة واحدة وموضوع متكرر وأسلوب يعتمد غالبًا على المحاكاة التهكمية لإثارة الضحك، فى تحدٍ صريح ليس فقط للنص المسرحى بل وإهمال قضايا الواقع الحقيقية وأسئلة اللحظة الراهنة.