جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

بشائر الأزمة: استثمارات الطاقة الأوروبية تتدفق إلى مصر

فى عدد الجمعة ١٥ أكتوبر من العام الجارى، كنت قد كتبت مقالًا بعنوان «كيف يتأثر الاقتصاد المصرى بأزمة الطاقة العالمية»، ضمن ملف خاص نشرته جريدة الدستور لبحث أزمة الطاقة العالمية من جوانبها الاقتصادية والمالية.

جاء المقال أساسًا ليتحرى التداعيات الإيجابية والسلبية على الاقتصاد المصرى جراء الأزمة. وعلى الجانب السلبى توقع المقال أن ترتفع أسعار السلع الغذائية ومواد الطاقة بالتبعية لما تشهده الأسعار العالمية من قفزات، أما على جانب الإيجابيات فقد ذهبت إلى أن الأزمة ستُعظم قيمة مصر كمركز إقليمى لتداول الطاقة، بدفع من البحث الأوروبى عن تنويع واردات الغاز بعيدًا عن المصادر الروسية، وذلك أولًا عبر زيادة المتاح من احتياطيات الغاز فى حوض البحر المتوسط، ثم الدفع فى اتجاه زيادة قدرات الطاقة المصرية المنقولة، سواء من الغاز أو الكهرباء إلى أوروبا.

لم يمض الكثير قبل أن تعلن وزارة الطاقة اليونانية فى ٢٥ من نوفمبر عن توقيع مذكرة تفاهم مع مصر على هامش اجتماعات منتدى غاز شرق المتوسط، تهدف لتوطيد العلاقات الاستراتيجية المصرية اليونانية، عبر تعزيز التعاون فى ثلاثة مجالات، هى كالتالى: تسويق الغاز المصرى المسال، البحث والتنقيب وإنتاج الغاز الطبيعى، وبحث إمكانية ربط الدولتين بخط غاز مباشر عبر البحر المتوسط بهدف زيادة القدرات المصرية على تصدير الغاز إلى أوروبا.

تحقق التوقعات بشأن زيادة الأهمية المصرية كمصدر استراتيجى بديل جزئى للغاز الروسى لم يكن من قبيل الصدفة، بل كان نتيجة ما تبذله الإدارة المصرية من جهود لتنصيب نفسها كمركز إقليمى لتداول الطاقة بأشكالها المختلفة، وللغاز على وجه التحديد خصوصًا فى المدى القصير، فبداية عملت مصر على رفع كميات الغاز المتاحة لديها للتصدير عبر استيراد المزيد من إسرائيل وقبرص، وذلك بتشييد المزيد من خطوط الربط بين حقول الدولتين ومنشآت الإسالة المصرية فى إدكو ودمياط.

حيث يجرى العمل فى الوقت الحالى على إنهاء اتفاق لمد خط غاز برى ثالث يربط حقلى تمار وليفثيان الإسرائيليين بمصر، بسعة تتراوح بين ٣ و٥ مليارات متر مكعب سنويًا، بتكلفة ٢٠٠ مليار دولار، ذلك بالإضافة إلى خط العريش عسقلان القائم فعلًا، وخط بحرى ثان يجرى بناؤه حاليًا، وفى الوقت ذاته يجرى تشييد أول خط مصرى قبرصى بين حقل أفروديت ومنشآت الإسالة، بغرض نقل الغاز القبرصى إلى أوروبا.

ليس ذلك فحسب، بل قدمت مصر نفسها كشريك موثوق متزن، يمكن التعويل عليه فى المديين المتوسط والطويل لإجراء تدخلات سريعة تخفض من حدة الأزمة كلما مارست روسيا ضغوطها مستخدمة صادراتها من الغاز، مما حفز تفكيرًا أوروبيًا فى استثمارات طويلة الأجل فى قطاع الطاقة المصرى بشكل عام، خصوصًا فى مجالات إنتاج الهيدروجين من مصادر الطاقة المتجددة، والذى يمكن ضخه كذلك عبر ذات الأنابيب التى تشيّد فى الوقت الحالى لنقل الغاز.

ومن هنا تلقت مصر عروضًا تزيد قيمتها على مليارى دولار من إينى الإيطالية، وتيسن كروب الألمانية، وجنرال إليكتريك الأمريكية، مصحوبة بتمويلات إنمائية من بنك التنمية الألمانى، وبنك الاستثمار الأوروبى، ومؤسسة التمويل الدولية لتنفيذ مشروعات لإنتاج الهيدروجين فى مصر، وذلك بعد توقيع عقود أول منشأة لإنتاجه بالتعاون مع سكاتك النرويجية فى العين السخنة.

السعى المصرى الحثيث والمنظم للتحول إلى مركز إقليمى لتداول الطاقة، نجح إذًا- مشفوعًا بتخطيط مسبق ومتقن- فى استغلال الأزمة لتسويق الملف المصرى لصانع السياسة الأوروبية، اعتمادًا على المقدرات الاقتصادية، والاتزان السياسى، كبديل لعدد وافر من المشروعات المطروحة من قوى إقليمية كتركيا للتحول لمركز إقليمى لنقل الكهرباء أو إيران كمزود منتظم للغاز، أو حتى دولية كمشروع خط أنابيب شرق المتوسط الذى دفعت الولايات المتحدة الأمريكية فى اتجاه تبنيه.