جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الإنفلونزا العظمى

رغم التطور المذهل الذى شهدته البشرية فى كل المجالات، فإنها بين الحين والآخر تقف مكتوفة الأيدى أمام أمراض أو ظواهر طبيعية تهدد مستقبلها، ولمَ لا؟، ما دام أصوات السياسيين وتجار السلاح والإعلام ورجال الأعمال أعلى من أصوات العلماء والمتخصصين.

لقد قتلت الحرب العالمية أربعين مليونًا، وقتلت الفيروسات ضعف هذا العدد، وقتلت حروب أمريكا فى فيتنام والعراق وأفغانستان عشرات الآلاف فى خمسين عامًا، إلى أن جاءت جائحة «كوفيد- ١٩» لتقتل ١٠٠ ألف أمريكى فى خمسين يومًا.

بعد أن قرأت كتاب «الإنفلونزا العظمى» تأكدت أن التاريخ يعيد نفسه، وأن الإنسان لا يتعلم من الماضى، مؤلف الكتاب «جون إم. بارى» مؤرخ أمريكى ولد سنة ١٩٤٧، وله مؤلفات سابقة مثل: الطموح والقوة: قصة حقيقية عن واشنطن، المد المتصاعد: فيضان المسيسيبى العظيم عام ١٩٢٧، وغيرهما من الكتب، واختارته بعد نشر الكتاب الذى بين يدينا إدارتا بوش الابن وأوباما للمشاركة فى استراتيجيات مكافحة الأوبئة فى الولايات المتحدة.

الكتاب كما يقول المؤلف لا يحكى قصة فيروس الإنفلونزا عام ١٩١٨ «التى عرفت فيما بعد بالإنفلونزا الإسبانية»، ليست مجرد قصة عن الخراب، والموت، والهلاك الذى حل بمجتمع يخوض حربًا ضد الطبيعة فقط، إنه يحكى قصة عن العلم، عن الاكتشاف، عن كيف يفكر المرء، وكيف يغيّر طريقة تفكيره، عن كيف استطاع بضعة رجال، فى خضمّ فوضى عارمة، التماس التأمل الهادئ، والاحتفاظ برباطة الجأش، لا من أجل التفلسف وإنما من أجل اتخاذ خطوات باتة جازمة.

لقد كانت جائحة الإنفلونزا التى اندلعت عام ١٩١٨ أول صدام عظيم بين الطبيعة والعلم الحديث، كانت أول صدام عظيم بين قوة طبيعية ومجتمع شمل أفرادًا رفضوا الاستسلام لتلك القوة، كما رفضوا الحلول الغيبية لإنقاذ أنفسهم منها.

عاد «بارى» إلى أرشيف ضخم جدًا من التقارير الاستخباراتية الخاصة بالوباء وبأوبئة أخرى مشابهة ظهرت فى فترة لاحقة مثل إنفلونزا الطيور، عاد إلى أرشيف ضخم من الصور الفوتوغرافية التى وثَّقت ذلك الوباء فى أمريكا، إلى جانب سرد التجارب المختبرية المعملية، الكتاب الذى صاغه بارى بروح الروائى يحكى قصة مجموعة من الأشخاص الاستثنائيين، الذين يعد بول لويس واحدًا منهم، كانوا رجالًا وحفنة من النساء لم يستسلموا لحالة التخلف العلمى، وطوّروا العلوم الأساسية التى يرتكز عليها قدر كبير من الطب الذى نعرفه الآن، كانوا قد طوروا لقاحات ومضادات سموم وأساليب لا تزال قيد الاستخدام، بل وصلوا، فى بعض الحالات، إلى تخوم المعرفة التى نملكها الآن.

الكتاب «الرواية» مزيج من السرد التوثيقى، والحبكة الروائية البوليسية، وسرد روايات الخيال العلمى لتمزج ببراعة بين الرعب، والمرض، والخوف، والمسارات المفصلية فى حياة المجتمع الأمريكى والعالم، وهو يواجه تلك الجائحة التاريخية الكبرى التى حصدت أرواح أكثر من ١٠٠ مليون إنسان على وجه الأرض.

كتب بيل جيتس عن الكتاب: «بارى أنجز عملًا عظيمًا فى إيضاح التأثير العميق للجائحة، ليس فقط على ملايين العائلات مثل عائلتى، ولكن على مسار التاريخ بأكمله»، وكتبت لوس أنجلوس تايم: «الكتاب الناتج عن بحث مستفيض، والمروى بأسلوب بديع يثير السؤال الواضح: هل يمكن أن يحدث ذلك مجددًا؟ والإجابة: بكل تأكيد!».

بعد مرور أكثر من قرن على الجائحة الأعظم فى التاريخ، وبينما العالم يصارع جائحة جديدة لا تتوقف عن التحور وإرباك البشرية، تأتى أهمية قراءة مثل هذه النوعية من الكتب، وكتاب «الإنفلونزا العظمى» صدر عن منشورات دار السلاسل بالكويت مؤخرًا بترجمة للروائى والمترجم إيهاب عبدالحميد الذى كان وجود اسمه على الغلاف دافعًا إضافيًا للقراءة، لأنه صاحب ترجمات رائعة سابقة بينها «قصة الجنس عبر التاريخ لرى تاناهيل، والجين: تاريخ حميم لسيدهارتا موكرجى، ونظام الزمن لكارلو روفيللى»، غير الروايات المنتقاة بعناية لخالد الحسينى وتشيغوزى أوبيوما وأمويور تاولز وأولغا توكارتشوك.