جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

بين مهرجان الأغنية العربية وأغانى المهرجانات

فى نفس الأسبوع شاهدنا فى مصر نقيضين فى دنيا الفن والغناء والموسيقى، كلاهما يختلف عن الآخر تمام الاختلاف، أولهما مهرجان الموسيقى العربية الثلاثون الذى يؤكد أن مصر قبلة الفن العربى وقلعته، فقد عاشت القاهرة أيامًا زاخرة بالطرب المصرى والعربى الأصيل مع أشهر وأبرز الأصوات المصرية والعربية من مختلف الأجيال ومن مختلف الدول العربية.

وتسابق الجمهور المصرى والعربى لحجز أماكن فى حفلات بلغ عددها ٣٣ حفلًا غنائيًا ساهرًا ساحرًا، وحضر عشرات الآلاف من المشاهدين الحفلات ليؤكدوا أن الطرب الأصيل له عشاق بالملايين، وأعرف الكثيرين من الذين كانوا يريدون حضور حفلات بالمهرجان إلا أن الحفلات كانت كاملة العدد، فلم يتسن لهم ذلك، ولو كان هناك ٢٠ يومًا لامتلأت الحفلات أيضًا عن آخرها، مما يؤكد أن الفن الراقى لا يزال يتربع على القمة، رغم أن هناك من يقدمون الفن الهابط ويصرون عليه، على اعتبار أن له جمهورًا عريضًا، ويراهنون على ذلك بترديد عبارة «الجمهور عايز كده»، والحقيقة تؤكد عكس هذه العبارة.

فالحقيقة التى أكدها مهرجان هذا العام، كما لمست بنفسى وتتأكد لنا يومًا بعد يوم، أن الجمهور يقبل على الفن الأصيل والطرب الراقى والغناء الجميل والأصوات القوية والموسيقى الشجية إذا ما تم تقديمها له بأسلوب جميل ورفيع المستوى، فالمهرجان الذى استمر ١٥ يومًا، حيث بدأ فى ١ نوفمبر واستمر حتى ١٥ نوفمبر، شارك فيه أشهر وأحب نجوم الغناء والطرب من مصر ومن الدول العربية، وهو مهرجان تقيمه وزارة الثقافة المصرية فى دار الأوبرا المصرية، وأقيم هذا العام للمرة الثانية على مسرح النافورة المفتوح بالأوبرا مع كل الإجراءات الاحترازية للحماية من جائحة كورونا.

وافتتحته إيناس عبدالدايم، بحضور د. مجدى صابر، رئيس دار الأوبرا المصرية، التى تقف داعمة للمهرجان، وشاركت بالعزف المتميز فى حفله الأول، وهى تقود فريق عمل قدموا جهدًا فوق العادة أسفر عن نجاح هذا المهرجان، الذى أحرص على حضوره كل عام. كما حضر دورته الثلاثين مشاهدون من كل الأعمار: الكبار والشباب الذين كانوا يتسابقون لشراء تذاكر الحفلات والتى تنفد فى نفس يوم الإعلان عنها.

والحقيقة أننى حضرت بعض حفلات الطرب الأصيل والراقى الذى يجعل من القاهرة قبلة الفن العربى الراقى والرفيع، وكنت أرى الجمهور يشارك بالغناء مع المطربين المصريين والعرب، وكان المسرح كامل العدد بشغف وبإحساس عالٍ، ويردد بعض الأغانى عن ظهر قلب، كما تشارك الأوركسترا المصرية بكامل هيئتها وبشبابها وبكبار موسيقييها بالعزف على المسرح المفتوح الأنيق، الذى أعد خصيصًا للمهرجان وتصاحبه شاشة عرض تعرض أجزاء من أفلام شهيرة أو من لقطات مصورة ليراها الجمهور أثناء غناء المطرب أو المطربة. ويعتبر النجم مشاركته بالغناء على مسرح دار الاوبرا المصرية نوعًا من الفخر يسعده ويعبر عنه بالكلمات على المسرح.. حدث هذا فى حفلات صابر الرباعى وعاصى الحلانى وأصالة، أما النجمة الكبيرة ماجدة الرومى فقد أضافت إلى كلماتها الرقيقة فى حب مصر لفتة رائعة صفق لها الجمهور المصرى طويلًا، حيث أمسكت بالعلم المصرى أثناء إحدى أغانيها وانحنت لتقبله، مما يعد دليلًا حيًا على أنها مبدعة من طراز رفيع، مما حفر لها مكانة كبيرة فى قلوب المصريين، ولهذا لقيت استقبالًا حافلًا من الجمهور المصرى، الذى يقدر من يثمنون مكانة مصر، وفى تقديرى أن ماجدة الرومى حاليًا تتصدر قمه الغناء العربى بلا منازع، وتعد أميرة الغناء العربى المتوجة فى قلب عشاق الفن الراقى والطرب الأصيل الحديث.

من ناحية أخرى، وفى نفس الوقت، قامت فى بلدنا معركة كبيرة فى نفس الأسبوع حول أغانى المهرجانات، والتى انتشرت منذ سنتين بين قطاع كبير من الناس فى الأحياء الشعبية بل وبين فئات كثيرة من المجتمع المصرى، وفى الأفراح وفى الحفلات العامة والخاصة، ثم قرر منذ أيام الفنان والمطرب الكبير هانى شاكر وقف أغانى المهرجانات ومنع المغنين، الذين يؤدون أغانى المهرجانات من الغناء تمامًا، وأصدر قائمة بأسماء الممنوعين لمنعهم من المشاركة أو إقامة حفلات أو الغناء فى أى مكان.

وهذه القائمة تضم عده أسماء اشتهرت أغانيها فى الشهور الأخيرة بشكل لافت للنظر، وهى أغانى تعتمد على الموسيقى الصاخبة وعلى كلمات تكون أحيانًا مقبولة، وفى أحيان كثيرة تكون فجة أو سطحية، لكنها انتشرت بشكل كبير بين فئات كبيرة من الشعب المصرى، ورغم أننى كنت دائمًا أقف مع حرية التعبير وحرية الفن وعدم وضع قيود على الفن، ورغم أننى كنت دائمًا أقف ضد فكرة المنع لأنه يجعل الممنوع من الأداء أو التعبير عن فنه، أيًا كان، يشتهر ويتعاطف معه الجمهور بشكل أكبر ويصبح أكثر شهرة وانتشارًا، إلا أننى أيضًا أرى أن هؤلاء المؤدين منهم من لا يصلح مطربًا من الأساس، ومنهم من يمكن توجيهه ليقدم أغانى بها كلمات منتقاة ومناسبة لأن يسمعها الناس فى البيوت.. فالشعب المصرى بشكل عام يعرف ويحب الأغانى الشعبية ويرددها وأحب من يغنونها، ولم يتم منعها لأنها لم تكن بها كلمات فجة.

وإن كانت بها أحيانًا كلمات غريبة ومضحكة مثل أغنية الطشت قالى.. وحبة فوق وحبة تحت، على سبيل المثال، وغيرها من الأغانى الشعبية الشهيرة، لهذا فإننى أدعو الفنان هانى شاكر إلى إعادة النظر فى فكرة منع الأغانى بشكل تعسفى، وأن يلجأ إلى فكره التقويم والمراجعة لما يقدم للجمهور، وأجازه أو السماح بالمعتدل أو بالممكن الموافقة عليه، لأن الشعب المصرى بشكل عام هو شعب محب للغناء والموسيقى منذ العصور الفرعونية، وهو شعب محب للحياة والبهجة والفن، ويعتبر أن الغناء والموسيقى هما وسيلة للتغلب على المشاكل الصعبة وضغوط الحياة والعمل اليومى من خلال أغان بسيطة وسهلة الكلمات. والدليل على ذلك أغانى الراحل سيد درويش الخالدة.

وأنا دهشت، أمس الأول، حينما حضرت حفلًا خيريًا كبيرًا، حيث فوجئت بأن السيدات يطلبن أغنية معينة لواحد من مغنى المهرجانات الذين تم منعهم بل وتعاطف معه الكثيرون بعد منعه.. لهذا فإننى أدعو الفنان شاكر إلى إعادة النظر فى المنع التام للمؤدين أو المغنين الجدد، ومطالبتهم باجتياز امتحان فى الصوت والغناء وحسن انتقاء كلمات الأغانى، ثم اختيار الصالح للغناء منهم، إن العالم الآن أصبح قرية مفتوحة، وحرية التعبير مبدأ عالمى علينا الأخذ به مع تصحيح المسارات الفجة.

إن فى العالم الآن تيارات غنائية جديدة مثل أغانى الراب، وهى أغان يؤلفها ارتجاليًا المغنون فى أوروبا وأمريكا، وتقام لها مسابقات، وهى تعبير ارتجالى عما يجيش فى صدر الشباب وعن آماله وطموحاته، وبها كلمات تحلق مع الحرية وتمزج معاناة الواقع مع آفاق الخيال، وأحيانًا تقام المسابقات الغنائية فى الشوارع أو الجراجات أو المقاهى، وأغانى «الراب» لا تشترط جمال الصوت، وإنما تشترط قبول المؤدى أو المغنى من الجمهور.. فهى أغان شبابية يرقص عليها الشباب ويحفظونها ويرتجل المغنون كلماتها وأصبحوا من أعلام الغناء فى العالم مثل المغنى الأمريكى الشهير إمينيم.

لذا أقترح من أجل الارتقاء بمستوى أغانى المهرجانات أن يتم تشكيل لجنة لفرز الكلمات والأصوات قبل خروجها للجمهور، هذا بدلًا من المنع، لأنى أخشى أن كل ممنوع مرغوب.

دهشت حينما حضرت حفلًا خيريًا كبيرًا حيث فوجئت بأن السيدات يطلبن أغنية معينة لواحد من مغنى المهرجانات الذين تم منعهم بل وتعاطف معه الكثيرون بعد منعه