جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الوجود الغائب

لم يحدث أن سألته أو احتجته، لم تكن لدىّ حاجة لشىء، لا أتذكر أنى دعوت الله بعمق، هو دائمًا بعيد، يتمركز خلف حجب كثيفة تفصل بينى وبينه.

أسأل ماما أيام الامتحانات، وعندما يكون لدىّ «ordre» مهم أن تدعو لى بالتوفيق، وهى تقول لى ادعيه أنت. أنا أخشى أن أدعوه.. أنا أخشى ألا يستجيب لى، أنا أتعلق به عبر الآخرين، سبق أن دعوته كثيرًا عندما رحلت ماما، تمنيت أن يستجيب لى، صرخت جدتى فى وجهى: «أنت جاحدة، تريدين الذهاب لأمك وتركى، لن يسمع الله منك، أنت جاحدة، أنت كافرة بالنعمة».

أخذت أبكى وكففت عن الدعاء، لكنى لم أكف عن البكاء.. حتى جاء جدى وأخذنى لماما وهى تصرخ فى وجهى كافرة، وتضم «شريف» لصدرها، بعد أن رفض أن يأتى للعيش معنا فى بيت جدى.

تنوعت وتعددت مصادر معرفتى وقيمى الأخلاقية، أحيانًا يتعارض بعضها مع بعضها البعض، وأحيانًا تصل إلى حد التضاد، عائلة أمى عائلة مكتملة، تبدو أن تصاريف القدر تجمعت كلها عند أمى ونسيتهم، حياتهم مستوية، مستقيمة، ظل هذا انطباعى عنهم حتى مرت السنوات، بدأ الجيل الثالث وظهرت حوادث الموت والطلاق.

طلق أبى زوجته الثانية، واستولت على حصة كبيرة من شركة «منة تورز» للسياحة، وبعد أن جرسته فى المحكمة، بسبب عجزه معها، هذه الأخبار تأتينى فأتلقاها بحياد راسخ وبرود قاتل، وعندما يعيد أسطوانته المملة بأن أمى هى السبب وأنها التى تركته وطلبت الخلع، أستعد بأسطوانة من أغنيات أديث بياف، وداليدا.. تدور فى ذهنى، وحركات فمى تضيق وتتسع كما عرائس البانتوميم، أغنية لارا فابيان «Je suis malade»

Je ne rêve plus

Je ne fume plus

Je n›ai même plus d›histoire

Je suis sale sans toi

Je suis laide sans toi

Comme une orpheline dans un dortoir

أنا مريضة.. حقًا أنا مريضة، ورغم وجود أبى على قيد الحياة، إلا أنى كيتيمة فى ملجأ.

يحاول أبى هذه الأيام التقرب منى، يريد تصوير إعلان عن شركة زوجته الجديدة.. تعلم أبى من سنواته السابقة، ألا يسمح للصيد بأن يفلت منه هذه المرة.

يذيع التليفزيون، المعلق فى المطعم دون صوت، الاحتفال بثورة ٣٠ يونيو، وماذا عن يناير؟ الثورة تخبو وتخبو كشمعة فى آخر دهليز والنفق يطول يطول، أنت تراها واثقًا من وجودها، لكن أثرها، ضوءها صار بعيدًا، فى الذكرى الأولى للثورة، انتشرت الدعوات للاحتفال، أعطانى فادى «ترانيم قبطية»، أخذت أقرأها وهو يصوب لى ما أخطئ فى نطقه، كان أول عام لى بالجامعة حيث تحررنا من عقدة عدم الاحتفال بالكريسماس خوفًا من الامتحانات، ورغم أن فادى وعائلته أرثوذكس، لكن الاحتفالات عادات مصرية، يحتفلون فى كل الأوقات حتى أعياد المسلمين..

لكن أفكارنا لم تتحقق وظهر واضحًا أن الجماعات الإسلامية هى المسيطرة على الأرض.

انزوينا فى ركن خيمة قريبة من مدخل محمد محمود، الشموع ليست ساطعة كالكشافات، والجيتار أضعف من الدفوف والطبلة، تلعلع المكبرات بالتكبيرات والأدعية الدينية والخطب.. شعرت بالغربة فى الميدان، كانوا يحتفلون بنجاح الثورة، لكننا كنا نجدد العهد بالثورة، ونريد تذكير الشعب بأن مطالبه لم تتحقق ولا يوجد قصاص لدماء الشهداء، ولا بد من إنهاء حكم العسكر، لم نكن نعرف أن باب الشهداء قد انفتح وسيتكاثر الشهداء وتملأ دماؤهم الاستادات والميادين، فى بورسعيد، العباسية، أمام قصر الاتحادية.. من يستطيع أن يحصى عدد الزهور التى تساقطت وقطفت فى غير أوانها.

فى هذه الليلة بكيت على كتف فادى.. لا أنكر أنى أحب فادى، وأنه علمنى الكثير وساعدنى وكان صديقًا، لكن ما يزعجنى أن قلبى لا يدق عندما أراه، أريد أن أراه، عقلى دائمًا حاضر، منتبه متيقظ، لا أقوم معه بتصرفات عفوية، لا أستطيع تفسيرها أو التحكم فيها، هل لعلاقة أمى بأبى دخل فى الأمر؟ لا أريد أن أعرف، المحيط الهادر قد يكون حوضًا زجاجيًا وأنا سمكة ملونة صغيرة أتقافز داخله.

مقطع من رواية «كسر الخاطر» تصدر قريبًا.