جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«المشهد».. وبناء الوعى

لقد بات الإعلام فى أشكاله الجديدة يعتمد على إنتاج محتوى مصدره فى الكثير من الأحيان الجمهور بغض النظر عن الوسيلة التى يُنشر فيها، وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعى رافدًا من روافد الإعلام المحترف التقليدى الذى يواجه تحديات ومخاطر جسيمة تهدد مستقبله أمام انتشار منصات ذلك الغول المسيطر، مثل انحسار مشاهدة وسائل الإعلام التقليدية مقابل تفاعل الجمهور غير المحترف فى ميدان الإعلام مع هذه المنصات الجديدة التى تستخدم بوفرة دون الوعى الإعلامى الکافى لتدفقها برعونة.
وفى عالم تتبدل وتتلون فيه مشاهد التغيير المتسارع، نعيش فى مواجهة الكثير من التحديات المؤثرة على عقول وأفئدة شبابنا، وهم يتابعون ما يحدث محليًا وإقليميًا وعالميًا، فقد بات الهاتف المحمول يمثل وكالة أنباء يقوم حامله بتحرير موادها ومحتواها الإعلامى، ويستقبل عليها كذلك كل أخبار الدنيا، ولم تعد تلك الممارسة مقصورة على كتابة الخبر أو التعليق على الأحداث، بل وصل الأمر حد تمكين المواطن الإعلامى من امتلاك قناة تليفزيونية خاصة على اليوتيوب يقدم من خلالها ما يرى من فكر ومواد، ومع تحقيق أرقام كبيرة فى أعداد المتابعين له يمكن أن تصبح القناة مصدر دخل مادى لصاحبها.. وفى النهاية تشكل كل تلك الوسائط مصادر للخطورة لو لم يكن هناك الوعى الإعلامى الكافى لدى ممارسى الاستفادة منها أو من يكتفون بتلقى رسائلها.
ولعل تنمية الوعى السياسى والثقافى لدى شبابنا هو الأمر الأهم فى ظل هذا الكم من التحديات التى يشهدها العالم والوطن العزيز فى تلك المرحلة، التى نخطو فيها بكل حماس نحو دنيا وعالم الجمهورية الجديدة، والتى تتسابق فيها كل أجهزة الدولة ومؤسساتها لاستكمال إعادة بناء وطن، والأهم بناء مواطن تلك الجمهورية.
وفى هذا الصدد، أرى أهمية الإشادة بكل جهد إعلامى يحاول المساهمة فى تنمية الوعى الجماهيرى، ولعل من أهمها فى الفترة الأخيرة ما يبذله صناع برنامج «المشهد»، الذى يتشارك فى تقديمه الإعلامى «نشأت الديهى» وزميله الإعلامى «عمرو عبدالحميد» على هواء فضائية «TEN»، والذى يمثل بداية جادة ومفيدة لتطوير البرامج السياسية الداعمة لجهود تنوير الرأى العام، وهو من نوعية «برامج الندوة» أو الصالون الثقافى، والتى تعتمد على استضافة عدد من الضيوف يعكسون أكثر من وجهة نظر لتغطية أبعاد قضية الحلقة.. وهى نوعية من البرامج ليست بالحديثة، ولكن أسعدنى توافر العناصر الإيجابية والمهنية التالية:
- مهنية وجدية وحرفية ووعى وثقافة مقدمى البرنامج ومراعاتهما التوزيع المتوازن للوقت بين المتحدثين.
- الاختيارات الرائعة لضيوف كل حلقة بما يتناسب مع موضوع الحلقة والحرص على ضرورة تنوع الخبرات.
- الاختيار الموفق للدكتور عبدالمنعم سعيد كضيف ثابت لعظيم خبراته الأكاديمية والبحثية والمهنية والإعلامية، ورشاقة وموضوعية تناوله الجذاب لزوايا عرض القضايا بما يستحق لقب «كبير المجلس».
- كانت المفاجأة، عبر متابعة ما أذيع من حلقات، استضافة خبراء وأهل فكر لأول مرة على قدر رائع من الخبرة «وجوه غير مُستهلكة إعلاميًا» مما يكشف عن إخلاص ومهنية الإعداد.
- الإعداد الجيد لإدارة الحوار والتطرق لأهم جوانب قضايا الحلقات.
لقد تابعت الحلقة الأخيرة حول الرؤى الداعمة لتنمية العلاقات المصرية الإفريقية، وهى مثل رائع لدور الإعلام المأمول لتجاوز الموجود البليد من اجتهادات إعلامية بذلت وتبذل فى هذا الصدد، فقد كان اختيار الضيوف وتنوع خبراتهم ومواقعهم أمرًا رائعًا فى تحقيق التغطية الشاملة، باستثناء غياب ممثلى القوى الناعمة مثل المؤسسات الدينية والرياضية، حيث كان يمكن تناول دور مؤسسات إفريقية فى مجال تلك القوى الناعمة «الأزهر والكنيسة والاتحاد الإفريقى لكرة القدم وغيرها».. ولكن ما طرحه الضيوف من رؤى وتطلعات وطنية صادقة للصالح الوطنى والإفريقى ينبه لأهمية فتح صفحات وإتاحة مساحات للحوار الموضوعى للتوعية، وبعث استضاءات للتنوير من شأنها دعم جهود الدولة فى بناء الوعى العام لدى الجماهير بشكل عام وشبابنا بشكل خاص.
وإن كانت ثمة سلبيات، فهى تتعلق بحالة فقر إنتاجى لا يتناسب مع قيمة وقدر برنامج أسبوعى بهذه الأهمية «ديكور وخلفيات متواضعة»، فضلًا عن افتقار لوجود تقارير تقدم مادة علمية وإعلامية مشمولة باستطلاعات للرأى ونظرات تاريخية وبحثية للحلقة بقدر أروع مما صاحب الحلقات التى تم بثها، وعبر فواصل الانتقال من زاوية إلى أخرى خلال زمن الحلقة.. ومع ذلك، البرنامج يستحق الإشادة والتنبيه لنجاحاته، والامتنان لأسرة إنتاجه وإدارته، فلم نتابع عبر حلقاته خيابات صراع الديكة الرذيلة، وإنما بناء حديث كل ضيف على ما قدّم مَن سبقه، وحتى الاختلاف لم يكن قابلًا للتصعيد المُهدر لوقت المشاهد، بل لتحقيق الإفادة من التنوع وابتكار حلول أثمرتها تلك الحالة من الاختلاف، حتى لا يصل الحضور إلى مناطق الخلاف السلبية المنفرة الكريهة.