جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

موسم الأوقات العالية.. لمحات من اغتراب جيل التسعينات المسحور

«موسم الأوقات العالية» هو اسم المجموعة القصصية الأخيرة للكاتب ياسر عبداللطيف، ياسر صديق وواحد من أبرز أدباء جيل التسعينيات، الجيل نفسه يمكن وصفه بـ«الجيل المسحور».. التسعينيات كانت جسرًا بين ركود الثمانينيات، والتحولات العنيفة التى ضربت مصر منذ بداية الألفية.. الجيل نفسه كان مرتبكًا بين الإعجاب بالأجيال السابقة وبين التمرد عليها.. التسعينيات بدأت بسقوط الأحلام الكبرى للمثقف التقليدى.. سقط الاتحاد السوفيتى ١٩٨٩، ثم سقط النظام العربى بغزو العراق للكويت.. فى الواقع المصرى كان التطرف الدينى يحصد ثمار إعادة إطلاقه فى السبعينيات، والواقع يتغير ببطء، والمجتمع يفقد معالمه القديمة.. فى هذه الظروف كان جيل التسعينيات يشعر بمزيد من الاغتراب عن الواقع.. ويتطرف بعض أفراده فى مخاصمة الثقافة العربية الكلاسيكية، ياسر عبداللطيف لم يكن كذلك، كان أقرب أبناء هذا الجيل للنضج، وكان أقربهم أيضًا للنمط «المحفوظى» نسبة إلى نجيب محفوظ، كان مثله يدرس الفلسفة فى آداب القاهرة، ويقرأ بلغة أجنبية، ويرفض العمل فى الصحافة، لكن نصف قرن بينهما تقريبًا تغيرت فيه النظرة للكتابة الجادة وأهميتها فى المجتمع.. جيل التسعينيات أيضًا كان آخر جيل يفهم الكتابة الأدبية بمعناها الجاد كوسيلة لتغيير العالم، ومع بداية الألفية ستظهر الكتابات الأكثر مبيعًا ذات الطابع التجارى، وسيسود نمط الكتابة الشعبى، القائم على استيراد وتعريب تيمات الرعب، والخيال العلمى، والبوليسى، والدستوبيا من الأدب الغربى، وستنمو نزعة محافظة تتجنب الخوض فى التابوهات الثلاثة، أو فى الجنس والدين على وجه التحديد.. هذا الجيل الجاد عبر عن اغترابه بسفر عدد كبير من أبنائه للخارج منذ أوقات طويلة ومنهم ياسر عبداللطيف نفسه الذى يقيم فى كندا منذ عشر سنوات.. كانت هذه مقدمة لا بد منها للحديث عن صاحب «قانون الوراثة» رواية، و«ناس وأحجار» ديوان شعر، ومجموعة أخرى من المجموعات القصصية، كان آخرها «موسم الأوقات العالية»، الصادرة عن دار الكتب خان، اسم المجموعة مشتق من أهم قصصها، وهى تصور تجربة مجموعة من المراهقين فى حى المعادى فى أواخر الثمانينيات، «الأوقات العالية» هى الأوقات التى كانت تقضيها الشلة فى تعاطى أنواع المخدرات المختلفة، وما صاحب ذلك من أنشطة كانوا يقومون بها، عالم القصة يعبر عن نفس فكرة اغتراب الشباب فى نهاية الثمانينيات، حيث لا عمل سياسيًا، ولا مشاريع كبرى، ولا إنترنت، ولا اختيار أمام الشباب سوى التطرف، أو إدمان المخدرات.. بشكل عام، ورغم تصنيف الكتاب كـ«قصص» إلا أن الأقرب للدقة أنه كتابة عابرة للنوعية، فموسم الأوقات العالية نفسها أقرب لرواية قصيرة، تنطوى على رسم لشخصيات متعددة، ولأحداث تقع فى أكثر من مكان، وهى تكشف عن عالم روائى يشغل الكاتب وتظهر تجلياته فى قصص متعددة له، وهو خبرته كشاب مراهق فى حى المعادى فى منتصف الثمانينيات.. من القصص العابرة للنوعية أيضًا والتى أحببتها جدًا هى «شهوة الملاك» وبطلها مسجل خطر كان يسكن على تخوم حى المعادى، كان المتهم الرئيس فى قضية اغتصاب فتاة المعادى.. فى القصة ثمة تقاطع بين خبرة شخصية للكاتب ورفاقه المراهقين مع البطل المسجل خطر، وبين واقعة الاغتصاب نفسها، وثمة عبور بين نوعين من الكتابة، أولهما هو الكتابة الأدبية، وثانيهما هو التحقيق الصحفى الاستقصائى، حيث يعود الكاتب لأوراق القضية، ويروى قصة الفتاة، وزميلها الذى كان معها وقت اختطافها واغتصابها، والخلفيات الاجتماعية لكل منهما.. وهى كتابة أحببتها للغاية، وتمنيت لو أن صحافتنا تملك مثل هذه المواهب الكبيرة التى يمكن أن تضيف لها كثيرًا فى فن التحقيق الصحفى الذى ابتذل فى السنوات الأخيرة، وحوصر فى قوالب جامدة، ونمطية.. من قصص المجموعة المميزة أيضًا «قصة حب تأثيرية» وهى تروى قصة ارتباط بين شاب مثقف وفتاة تهوى الكتابة فى بداية التسعينيات، وهى أيضًا تبدو رواية قصيرة، أو مشروع لرواية، وهى سمة معظم قصص المجموعة، التى تتقاطع غالبًا فى الحيز المكانى «المعادى أو وسط البلد غالبًا»، وتتقاطع فى الحيز الزمانى «من منتصف الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات».. بشكل خاص أحببت المجموعة لأنها تدور فى عوالم قريبة من زمن عشته وأحببته، ولأنها تسجل تجربة كاتب من جيل أنتمى إليه، وبشكل عام أنا منحاز لهذا النوع من الكتابة الجادة، التى لا يهدف صاحبها للتوزيع، ولا للجوائز ولا لأى شىء سوى متعة الكتابة والمعرفة.