جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

أخطأ نجيب.. وأصاب نجيب! (2-2)

بدأ عصر الظلامية بإنشاء الجماعة الإسلامية، ثم استيراد فتاوى التعافي ببول الإبل ونحو ذلك، وتواكب مع هذا  "تسفير" بن لادن من بلاده ، ليجاهد مع المجاهدين الأفغان أولًا.
عندما لاح على المسرح وهج شاكوش وبيكا ورمضان  كانت مصر قد "تسلفنت".. وأصبحت ماضوية  التفكير، طول أفكارها تدين قشري، وعرضها إظلام فكري وعمقها إرهاب ديني. انقلبت نساؤها على تراث هدى شعراوي ونبوية موسى، ورفعن على رءوسهن رايات سوداء، وأدنين على قوامهن "عبايات سوده"، فاتشحت أفكارهن بالسواد وأظلمت الرءوس، وأطلت برأسها "الدشاديش البيضاء" القصيرة تغزو الشوارع مع النقاب والحجاب، تنبئ عن تفشي سلفية مقيتة في المجتمع، ومعها  بدأت ذائقة السميعة تتغير، من الوله بدولة التلاوة المصرية برئاسة الشيخ رفعت، إلى ميل الذائقة نحو  أصوات المقرئين  الماليزين والباكستانيين وغيرهم . وأسوأ من هذا، أخذ الناس يترقبون الفتاوى الغريبة لابن عثيمين وبن باز. وبدا أن الشيوخ مصطفى عبدالرازق وعلى عبدالرازق وشلتوت وعبدالمتعال الصعيدي ومحمود زقزوق لم يعد لأفكارهم  ذكر كبير، إلا في أوساط المثقفين!
هكذا  كانت مصر يوم ظهر حمو وشاكوش ورمضان .. ماضوية التفكير..خاوية من كريمة قوتها الناعمة، الإبداع فيها لا يخرج عن غرف حوار المثقفين والمبدعين المغلقة، وكأنهم يديرون حوار طرشان لا يسمعه غيرهم ..بينما في الخارج يرتع ويلعب سلفيون وأئمة عقيمو التجديد وطيورالظلام ترتع في كل مكان وترهب الدنيا وتشيطن الدين وينحدر التعليم إلى أسوأ المراحل ..فلم يعد هناك في المدارس لا تربية ولا تعليم وإنما هناك موبايل وثلاثة خطوط .. وتيك توك وإنستجرام وتليجرام وواتس أب .. وسلم على البتنجان .. (أو الأخلاق) بصوت نادية الجندي!

لكن الغريب - يا بشمهندس نجيب- أن تكون هناك انهيارات في البورصة، وهناك مخاطر تهدد أموال وأسهم المتداولين، وبينها شركات لك، وأن يتردد خبر عن تبرع هيئة الرقابة المالية للبورصة بـ 500 مليون جنيه، مع أنها جهة غير قابلة للربح، ومع هذا تصمت هناك وتتحدث هنا، مع أنك رجل أعمال يفهم في البيزنس والفلوس، أكثر من الفن والثقافة! غريب أن تمتشق حسامك دفاعًا عن الذائقة الهابطة وأئمة الغناء الهابط ..بذريعة الحرية! هل هناك حرية مع الأمية الثقافية؟ ومع إعلان وفاة الصفوف الأولى من القوى الناعمة المصرية، في ظل حالة "عَته " تمنع عامدة متعمدة، الصفوف الثانية  من تبوؤ مقاعدها ؟

 باشمهندس نجيب: أصاب نجيب محفوظ ، لأنه عندما كان يتحدث عن إمام الأغنية الشعبية عدوية، كان مجتمعنا مختلفًا ومتماسكًا وقويًا، كل جهة تعمل بطلاقة، وحركة التربية التعليم والترجمة والإبداع لم يصبها الخبل، أما اليوم فالمجتمع كله يعاني فيروس الدجل والشعوذة والخرافة وقيم التسليع والفلوس، وكل ما نعتبر جائزة ساويرس للثقافة  ضده من قبح مجتمعى  وكل ما نظنها مغذية أو رافدًا لتنمية الآداب الرفيعة وليس الأغاني الهابطة. 
وحتى لو كانت الأغاني الهابطة ممتعة للناس، فإن ووجودك على رأس مؤسسات ثقافية مثل "جائزة ساويرس الأدبية" ومهرجان" الجونة " السينمائي يفرض عليك أن تتنحي عن دعم هذا الهبوط بشكل علني، ولو كنت تحبه وتتذوقه، لأن في هذا تناقضًا مع ما توحي به رسائل مؤسساتك  من اهتمام بالثقافة والفكر، أم أنك تعتبرها  مجرد "منديل حرير تضعه" في عروة الجاكيت، وتمسح به نجاة دموعًا تذرفها على الغناء الأصيل؟
 لو أن ذلك كذلك، لكان علينا أن ننبش  قبر أحمد فؤاد نجم - نحن وابنتاه نورا وزينب - ولأعدنا الجائزة وقيمتها المادية والمعنوية إليك، ولو جمعنا المبلغ جنيهًا جنيهًا. ولدعونا  جميع الفائزين بجوائزك الأدبية للاحتذاء بنا!

لو أن مصر عفية وقوية ولم تفقد قواها الناعمة ويتراجع نهر إبداعها وتنافسها عواصم عربية أخرى في الفنون والثقافة  لما خفنا عليها من انتشار أغانٍ هابطة إلى حد الدرك الأسفل من الغناء.  
صحيح أن مصر ولادة وبها مواهب جديدة، لكن أحدًا لم يصعد بهم، وإنما  يصعد أقطابها بالمهرجين، وبالفنانين عديمي الثقافة القادمين من سلخانات الجزارة وسواقي التكاتك، ليجمعوا الملايين ويسكنوا في زد والتجمع ويركبوا البورش والفيراري ويقودوا الطائرات!
مصر معتمة ثقافيًا، فلا مسرح  يعيد الوعى مثل  أهلًا يا بكوات والملك لير أو عرض سينمائي يهز الدنيا مثل الأرض أو رواية خالدة مثل أولاد حارتنا، أو سِفْر عقلي مثل تجديد الفكر العربي لزكي نجيب، كيف في ظل غياب طه  حسين وتعليمه الذي هو حق كالماء والهواء؟ 
كيف لمجتمع يصغي لصبي الزاوية ويرفعه لمصاف العلماء، ويتلقى عنه فتاوى الحلال والحرام ، تطالب بأن يترك للناس فيه حرية إذاعة ما يروق لهم؟
ما الذي تريد أن يحدث لذائقة المصريين ووعيهم أكثر من ذلك؟ فغدًا قد ينسون  عدوهم  الأصلى رغم أنه لم يتغير، ولن يصدقوا كشفنا لمفاسد الإخوان وإرهابهم ويحذروا منهم، ويرفضوا رشاواهم، والتأكد من أن وجود الإخوان بالضرورة  وقود حيوي لهذا التخلف الفكري وسيبقيه قائمًا بل ومصاحبًا لأغاني وذائقة المهرجانات. 
عندما تحدث نجيب محفوظ عن عدوية كان صادمًا ومصيبًا أيضًا، فلم يدع ويروج لعدوية، ولكنه كان يفسر ويحلل ظاهرة وجوده، ومع هذا كانت هناك قامات بالمجتمع  ترد الرأي بالرأي ..اليوم  المسألة مختلفة: مفيش كتاب من أصله ولا تعليم ولا ثقافة ولا سياسة ..فقط مجتمع مهرجانات.
فهل تريد استمرار تفشي  العتمة، أم تريد - يابشمهندس- أن  تحمل الشمعة معنا  لتضيء العتمة؟!.