جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

المسكوت عنه فى الطب

يستعرض هذا المقال جملة من المفاهيم المغلوطة بحقل الممارسة الصحية، التى لم يتفرغ الأطباء لتصحيحها، ومن ثم تسببت فى فتح ثغرة لأدعياء الطب والدجالين لمزاحمة الطب الدليلى، وظهر الطب البديل، وطب الأعشاب، وطب البركة والتداوى بالمقدس، وغيرها من الممارسات التى ضاعت معها فرص التداوى للكثيرين، سواء بسبب التلكؤ فى العلاج أو تنحية الخبرة العلمية فى التشخيص والتداوى.

ولعل أشهر العبارات الرنانة التى يزين بها الدجالون وصفات العلاج عبارات لا يفهمها الطب مثل «غسيل الكبد، تطهير الكبد، تخليص الكبد من السموم، غسيل الكلى، غسيل الرئة، تنظيف الرئة»، إلى آخر القائمة من «خدمات التنظيف الجاف لأعضاء الجسم» وكلها مسميات كاذبة وخادعة ولا يعترف بها الطب، وهى أبعد ما تكون عن الحقيقة، ولن تجد لها مرادفًا فى اللغة الإنجليزية.

ولعل أشهر هذه الاصطلاحات هو «غسيل الكلى»، وهو وصف غير علمى؛ لأننا فى الحقيقة لا نغسل الكلى، إنما نغسل الدم بسبب تعطل الكلى، سواء باستخدام الغشاء البريتونى لنفس المريض أو باستخدام جهاز الكلى الاصطناعية، وفى ذات السياق لا يعرف الطب غسيل الكبد، ولا تطهير الكبد، ولا غسيلًا للرئة ولا تنظيفًا جافًا ولا تطهيرًا، اللهم إلا إذا قبلنا وصف غسيل الشرج والقولون باستخدام الحقنة الشرجية أو المعدة المنظار.

لفظ «الغسيل» يتاجر به أدعياء الطب وتجار الأعشاب، وهى عبارة لها وقع طيب على النفس، فليس هناك أفضل من «غسيل» أى شىء مرتبط بزوال المرض.

وعودة إلى سوق التداوى بالفيتامينات والمعادن بزعم أنها تقوى الجسم أو تزيد الوزن أو تمنح الطاقة ولا تمنح الجسم سعرات حرارية وكذلك المعادن، وهى فكرة عبثية؛ لأنه لا فائدة تضاف لك عند تجرع الفيتامينات أو المعادن فى حال عدم وجود نقص منها بالجسم، بل يؤدى الإفراط إلى عواقب وخيمة، تصل إلى حد التسمم وأكثرها شيوعًا التسمم بفيتامينى «أ، د»، إذن من الخطورة الاحتفاظ برصيد عالٍ من أى عنصر غذائى فى الجسم.

أما فيما يتعلق بالحجامة، وهى الإجراء الذى يحظى بأكبر رواج، والسبب أنه نسب إلى الطب النبوى، وهو أمر لم يقره الفقهاء، ولأنه يحمل فى طياته ميزة كاذبة يتاجر بها الحجامون وهى تنظيف الجسم من الدم الفاسد.

ليس هناك ما يعرف بالدم الفاسد فى أى من أجزاء البدن، وتفسير الادعاء أن هناك الدم الشريانى ولونه قان والدم الوريدى وهو داكن بطبيعته ولكنه غير فاسد.

زحف الدجالون أيضًا إلى كيمياء التدخين، وأصبحت لهم حصة، لا بأس بها، فى الإيحاء بزوال مخاطر التدخين وتسرطن الرئة، من خلال أعشاب ومواد تحمل وهمًا لمسميات علمية، مثل مانعات الأكسدة ومانعات التسرطن. فى الحقيقة، ليس صحيحًا أن الإقلاع عن التدخين يلحق المتوقف عن التدخين بصفوف الأمنين من سرطان الفم أو الحنجرة أو الرئة أو المثانة البولية بعد الإقلاع عن التدخين فى اليوم التالى أو بعد أسبوع أو شهر أو سنة أو حتى عشر سنوات، وكل ما فى الأمر أن الإقلاع عن التدخين يقلص احتمالية التسرطن، وكذلك يحد من فرص التكيس الهوائى الذى بدأ بالرئة، ولكن لن تنعدم احتمالية التسرطن؛ لأنه بدأ بالفعل مع الأنفاس الأولى للمدخن، وهى عملية تحول تبدأ بتهيج الخلايا المعرضة للقطران الذى يحتوى على ٤٠٠٠ مركب مسرطن أو أكثر، فتبدأ خلايا الرئة بالدفاع عن نفسها، بإحداث بعض الانحراف فى النمو أى التحول السرطانى.

لا توجد دراسات علمية تفيد بأن تدخين سيجارة ينقص العمر خمس دقائق، أو أن الشيشة أقل خطرًا؛ لأن القطران مغسول، أو أن حجر المعسل يوازى ٢٠ سيجارة، فكلها إرهاصات، ولكن المؤكد هو الضرر مع كل نفس.

بات ضرر التدخين مرهونًا بأقدمية التدخين عوضًا عن شراهة التدخين، بمعنى أن الخطر الكامن فى تدخين سيجارتين يوميًا لمدة ثلاثين عامًا قد يكون أخطر من تدخين عشرين سيجارة يوميًا لمدة عام.

ليس صحيحًا أن أيًا من الأطعمة مثل البروكلى أو الأسماك أو الفاكهة يمكن أن تعادل أو تبطل عملية التسرطن الناشئ عن التدخين. 

جدير بالذكر أن التدخين الإلكترونى له نفس الأضرار والمخاطر التى يحدثها التدخين التقليدى، كما أن إضافة النكهات على معسل الشيشة يزيد المخاطر مرات ومرات؛ لأن مكسبات النكهة بداية من احتراق الجلسرين مرورًا بالزيوت الطيارة العضوية وانتهاء بمحتويات الفحم كلها تزيد الطين بلة.

سوق الكركومين

شهدت ساحة التداوى العشبى نشاطًا جديدًا أضافه أدعياء الطب، وهو إدخال الكركم لسوق الخدمة، ولكن تم استبدال مسمى الكركم المعروف للعامة وأصبح «الكركومين»، والهدف بالطبع هو إضفاء وصف علمى على الاسم، والكركم الذى نعرفه هو نوع من العطارة العشبية يستخدم لإضافة لون ونكهة محببة لبعض المخبوزات، ولم تسجل أى أضرار للكركم لدى الاستخدام الرشيد بالكميات التى نعرفها. 

تكمن المشكلة فى أن دخول الكركم إلى سوق الخدمة لدى أدعياء التداوى جعل استخدامه مقررًا على نطاق واسع، فالمعالج ينصحك بتناول ملعقة مع كل وجبة أى ثلاث مرات يوميًا لمدة شهر، وهو أمر فى غاية الخطورة يجعلك تتجاوز حدود الجرعة الآمنة من العشب، حتى إن كان آمنًا فى الكميات البسيطة.

يشارك الإعلام المرئى، مدفوع الأجر والخارج عن الرقابة، فى الترويج لهذا الخلل الفكرى لدى العامة، الذى يصب فى النهاية فى خانة المرض.