جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الإنسان هو الإنسان.. في كل مكان

مضى عام، ولم أرتد طريق القاهرة ـ الأسكندرية الصحراوي.. فهذا الطريق أقطعه، كلما حانت أيام الصيف، لافحة الحر.. وقد اعتدت أن أسير عليه، أما في أول الليل، أو مع التباشير الأولى للصباح، ففي ذلك راحة وبركة، وتُطوى المسافات أسرع من غيرها من الأوقات، بعيدة عن حرارة الشمس أو زحمة الطريق.. وفي ذلك الوقت، كثيراً ما نمتلك القدرة على التأمل في ملكوت الله، ونتذكر عظمة خلقه وإبداعه في الكون، الذي أرخى الليل عليه سدوله، فبدت الأشياء أعظم وأروع مما تبدو عليه في النهار.
قبل أكثر من شهر، لفت انتباهي، وأنا في طريقي إلى الأسكندرية، وعند منطقة وادي النطرون، تلك المصابيح المتلألئة، والمباني الرائعة، التي اكتسى معظمها بالرخام، بذائقة معمارية بديعة، فسألت نفسي: أين ذهب سجن وادي النطرون؟.. هل أزالوه وبنوا مكانه منتجعاً سياحياً، استغلالاً لمساحته الشاسعة؟.. لكن سرعان ما تبين لي على البعد، مبنى فارهاً وقد أدركت أنه مقر لمجمع محاكم.. فكيف تأتي المحمكة إلى جوار المنتجع، في هذه المسافة التي تتوسط طريق طوله مائتي كيلو متراً، هي المسافة بين القاهرة والأسكندرية؟.
وبدافع من الشغف وحب الاستطلاع الذي ينتاب الصحفي، دأبت على السؤال عن ما هية هذا المكان الجديد على الطريق الصحراوي.. ولم أبحث كثيراً، لأجد أن مركزاً للتأهيل قد تم إنشاؤه بوادي النطرون يوفر مقاراً للمحاكمات والخدمات الصحية والغذائية والتأهيلية، من تعليم وتثقيف وتأهيل هؤلاء المواطنين (نزلاء السجون)، للاندماج في المجتمع بعد قضاء مدة العقوبة، على أن يكون خروجهم من السجن، الذي تحول لمركز إصلاح وتأهيل، ومناطق للإنتاج الصناعي والزراعي، بداية لحياة جديدة يمتلكون فيها الحرفة التي تضمن لهم الرزق والثقافة والوعي، الذي يبعدهم عن الانحراف عن القانون، فيصبحون مواطنون أفضل من السابق وأكثر نفعاً لأنفسهم وذويهم ومجتمعهم.. فلسفة جديدة تخطو نحوها وزارة الداخلية لتطوير منظومة السجون، وتحقيقاً لما تنشده الدولة المصرية من بناء جمهورية جديدة، يكون أساسها توفير حياة كريمة للمواطن واحترام حقوقه كإنسان، دون تفرقه بين ما إذا كان مواطناً عادياً حراً، أم آخر انحرف به السلوك فجعله مُعاقباً بسبب خروجه على القانون.
رأينا، عبر الأفلام الأمريكية في السينما، الصورة التي تمنيناها للسجون عندنا، وكيف تبدو ـ ولو ظاهرياً ـ لنا أنها تراعي الحقوق الإنسانية للمواطن.. وللحق، فإن خيال أي منا لم يصل يوماً، أنه سيكون لدينا مثل أماكن الاحتجاز هذه.. فالبسطاء دائماً ما يرون البون شاسعاً لمفهوم الحقوق الإنسانية، بين بلادنا ودول الغرب الأمريكي بالذات.. دون أن يفطن أحد إلى أن هناك من جاء حاملاً رسالة المحبة والحق والعدل للمواطن المصري، أياً ما كان مكانه، حتى لو كان رهناً لحكم قضائي عادل، ينفذه وراء الأسوار العالية.. جاء الرجل الذي آمن بحق المواطن في الحياة الكريمة، حتى ولو كان سجيناً.. فهو في النهاية مواطناً، له كل الحق في أن ينال نصيبه من الصحة والتعليم والثقافة، والتأهيل الذي يصنع منه مواطناً صالحاً، ينتمي لبلده، ويفتخر بلده به في قادم الأيام.
ولأن (عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا)، فقد رأى الكارهون لهذا البلد، المشككون في خارطة إصلاح أحواله، في هذا المركز، إضافة جديدة للمزيد من السجون وأماكن الاحتجاز، ولم يسمعوا أو يروا أن مثل هذا المركز التأهيلي، إنما يأتي بديلاً لإثنتي عشر سجناً، سيتم إغلاقها نهائياً، تمثل ما يقارب 25% من السجون في مصر، ينتقل نزلاؤها إلى رحاب الإنسانية والكرامة الآدمية، في منطقة الاحتجاز بهذا المركز التي تضم ستة مراكز فرعية، روعي في تصميمها توفير الأجواء الملائمة، من حيث التهوية والإنارة الطبيعية والمساحات، بالإضافة إلى توفير أماكن لإقامة الشعائر الدينية، الإسلامية والمسيحية، وفصول دراسية ومكتبات، وأماكن تتيح للنزلاء ممارسة هواياتهم، وساحات لممارسة الرياضة وملاعب ومراكز للتدريب المهني والفني، إضافة إلى مجموعة من الورش المختلفة، تم تصميمها بأسلوب علمي وتكنولوجيا متطور، استُخدم خلالها أحدث الوسائل الإليكترونية، كما تمت الاستعانة، في مراحل الإنشاء والتجهيز واعتماد برامج الإصلاح والتأهيل، بأحدث الدراسات التي شارك فيها متخصصون، في كافة المجالات ذات الصلة للتعامل مع المحتجزين وتأهيلهم، لتمكينهم من الاندماج الإيجابي في المجتمع، عقب قضائهم فترة العقوبة.. وما منطقة التأهيل والإنتاج، التي تضم مناطق الزراعات المفتوحة والصوب الزراعية والثروة الحيوانية والداجنة، والمصانع والورش الإنتاجية، إلا تطبيق على أرض الواقع لتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي، بأن (المتواجد داخل السجن، يجب أن تتم معاملته بشكل آدمي إنساني، وتتوفر له إعاشة ورعاية طبية وإنسانية محترمة، وكذلك رعاية إصلاحية عالية جداً).
إن ما ذهبت إليه وزارة الداخلية، من الاهتمام بالسجين وأسرته، ومراعاة الجوانب الاجتماعية، وانتهاجها أسلوباً إصلاحياً وتهذيبياً وتنموياً، دليل الآن أكثر عمقاً وأكثر قرباً للإصلاح، وتطبيقاً لمبدأ (الوقاية خير من العلاج)، تكون أهم مخرجاته، إنسان صالح لنفسه، حريص على أسرته ومجتمعه، نافع لكل من حوله، فكما يقول الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون).. هذا الاتجاه نحو تطوير منظومة السجون وسياسة العقوبة، سينعكس بالإيجاب والنفع على كل من المجتمع وتنشيط مجالات الحياة كافة، وكذلك العلاقات الدولية، إذ أن المجتمع المصري أصبح لديه رؤية مغايرة نحو التنمية والتطوير.. فنحن أمام عصر جديد، يولى فيه رئيس الجمهورية اهتماماُ بتطوير مناحي الحياة، الاجتماعية والاقتصادية والصحية والثقافية، وكان لديه حلماً أن يبني مصر الجديدة.. وها هو الحلم يتحقق، حتى في مجال السجون.. اليوم نحن أمام دولة عصرية، تحترم حقوق الإنسان، وهو ما أصبح واضحاً وجلياً.
بعد إطلاق مصر لإستراتيجية حقوق الإنسان، وبعد تعاون المجتمع المدني مع الدولة، في تحقيق أهداف إستراتيجية تتفق والجمهورية الجديدة، وبعد إلغاء قانون الطوارئ ـ ولهذا حديث آخر ـ لانتفاء الحاجة إليه وانتشار الأمن والأمان والسلام الداخلي، جاءت مراجعة الحكومة لدور السجون في مصر، ومنها انطلقت إستراتيجية جديدة، بفكر مختلف لوزارة الداخلية في التعامل مع المساجين.. هذا التوجه في سياسة العقوبة توجهاً إنسانياً تنموياً، يؤهل أدوار وزارة الداخلية في تعاملاتها مع الخارجين على القانون، ويساعد في إرساء قواعد الجمهورية الجديدة.
●●●
ويأتي الذين لا يعجبهم العجب، ولا الصيام في رجب، وهم الذين ملأوا الدنيا صياجاً عن عدم ملائمة السجون لحياة نزلائها، ليقولوا أنه كان من الأولى، إنشاء مدارس ومستشفيات، بتكاليف إنشاء هذا المركز التأهيلي.. غير مدركين لحجم ما يتم إنشاؤه من مستشفيات وفصول دراسية جديدة، وتطوير القائم منها.. وقد غاب عنهم أيضاً، أن هذا المركز يعد باكُورة لإنشاء عدد آخر من مراكز الإصلاح والتأهيل، سيتم بعدها إغلاق جميع السجون القديمة، وأن الموازنة العامة للدولة لم ولن تتحمل أعباء إنشاء وإدارة مراكز الإصلاح والتأهيل هذه، في ضوء أن القيمة الاستثمارية لمواقع السجون العمومية المقرر إغلاقها، تفوق تكلفة إنشاء تلك المراكز.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.