جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

فيسبوك.. ترامب والهند

لعل حضراتكم تتذكرون مشاهد اقتحام مبنى الكونجرس، من قِبل مجموعات من مؤيدى الرئيس الأمريكى وقتذاك «دونالد ترامب»، المشاهد التى كانت مرعبة بالنسبة للمواطنين الأمريكيين العاديين، بعدما شعروا بغياب الدولة، وفقدان مؤسساتها القدرة على حمايتها. ليس فقط بسبب المظهر البربرى للمقتحمين، بل كذلك لانتهاكهم «حرمة» الكونجرس ورمزيته لسيادة الولايات المتحدة وقيادتها العالم. وبعيدًا عن نظريات المؤامرة التى عربدت فى أذهان أنصار «ترامب»، بأن السماح بهذا المشهد كان مدبرًا، لتوريط الرجل وإظهاره ومؤيديه بمظهر التخريبيين المعادين لمؤسسات الدولة، إلا أن المشهد ذاته وما حدث قبله لا يعنينا فى هذا المقال بقدر ما تعنينا توابعه.

إذ تلت ذلك موجة من الحظورات لمدد طويلة لحسابات «ترامب» على موقعى فيسبوك وتويتر، بحجة أنه يستخدمهما كمنصات لبث الكراهية، وتعريض السلامة العامة للخطر. مدة الحظر على فيسبوك بلغت عامين كاملين وجاءت مصحوبة بتوبيخ وتهديد لترامب من نائب رئيس الشئون العالمية «الخارجية» فى فيسبوك «نيك كليج»، بأن أفعاله تشكل انتهاكًا صارخًا لقواعد فيسبوك وتستحق أعلى عقوبة متاحة على المنصة، وقد تمدد فترة الحظر فى حال انتهك القواعد مجددًا.

فيسبوك كان صارمًا مع الرئيس الذى خسر الانتخابات الرئاسية، وكانت فترة حكمه على وشك الانتهاء، لكن إدارة فيسبوك أثناء هذه الأحداث وقبلها لمدة عام على الأقل، كانت تسمح بسلوكيات أشد خطورة، بل تدعمها فى مجتمعات أكثر فقرًا وأقل تعليمًا مثل الهند، هذا ما أثبتته مذكرة من ٤٦ صفحة بعنوان «انحدار مستخدم هندى إلى بحر من الرسائل القومية المستقطبة»، لخلاصة تجربة فى الهند أنشئت خصيصًا لدراسة اقتراحات خوارزميات فيسبوك للجمهور وتأثيرها عليهم، جاءت ضمن المُستندات التى سربتها «فرانسيس هوجن»، الموظفة السابقة بالشركة.

إذ جرى تصميم التجربة للتركيز حصريًا على دور فيسبوك فى التوصية بالمحتوى، عن طريق استخدام حساب تجريبى فى فبراير ٢٠١٩ لملف شخصى لامرأة تبلغ من العمر ٢١ عامًا، تعيش فى مدينة جايبور بغرب الهند، ومولودة بمدينة حيدر أباد، بحيث تتابع فقط الصفحات أو المجموعات التى توصى بها المنصة، لينتهى بها الحال لمتابعة صفحات لمجموعات إرهابية، وأخرى تبث محتوى إباحيًا، بالإضافة لعدد آخر يحض على الكراهية والتفرقة العرقية والتمييز ضد الأقليات، خاصة المسلمين الهنود.

هذه الأفعال نفسها هى ما منعت حسابات ترامب بسببه فى الولايات المتحدة، حيث الرقابة الصارمة، أما فى الأسواق النامية فتستهدف الشركة النمو دون غيره، وتضرب بقواعد السلامة العامة، والترابط المجتمعى عرض الحائط تحت مسميات حرية التعبير. كل ذلك كان قد عرف سابقًا عن فيسبوك- دون تأكيد- فى إطار استخدامه خوارزميات لإشاعة الجدل وإثارة النعرات القومية والإثنية، بغرض زيادة التفاعل وجذب مزيد من اهتمام المستخدمين، بما يصب فى زيادة الأرباح التى ارتفعت بالفعل دونما توقف، لتصل لحسابات المنصة مغمسة بدماء الأبرياء دون أدنى مبالغة. أما اليوم فهو وقت حساب فيسبوك وقيامته حرفيًا، بعد هذه الفضيحة وغيرها مما ننتظره خلال الأسابيع المقبلة، بعدما تخرج للنور خلاصات المستندات المسربة، حيث تفكر إدارة فيسبوك من الآن فى تغيير اسم الشركة والمنصة لتقليص الخسائر.

وبالعودة للسيد ترامب، فكعادته استغل الوضع الكارثى، وعدم الثقة التى يشعر بها المستخدمون تجاه منصات التواصل الاجتماعى القائمة، ليعلن عن إطلاق منصة جديدة يمتلك فيها حصة أغلبية تحت مسمى «Truth Social»، التى وصلت قيمتها حتى قبل إطلاقها الفعلى إلى ٨.٢ مليار دولار، بعدما اندمجت مع شركة مطروحة فى السوق فعليًا، لترتفع أسهمها بعد الاندماج من مستوى ٩.٩٦ دولار، إلى ٩٤.٢ دولار، أو بزيادة نحو ٨٠٠٪، جعلت ترامب فى أغنى حالاته على الإطلاق، إذ كانت تبلغ ثروته قبلها نحو ٢.٣ مليار فقط، لترتفع ثلاثة أضعاف إلى ٦.٤ مليار تقريبًا، ليخرج كالعادة منتصرًا، حتى مع خسارته السباق الرئاسى، وحساباته على منصات التواصل الاجتماعى.