جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

82 دقيقة مع الكفيف الفنلندى

استحق الفيلم الفنلندى «الكفيف الذى لم يرغب فى مشاهدة تيتانك» جائزة نجمة الجونة الذهبية هذا العام عن جدارة واستحقاق، ليس فقط بسبب موضوعه الإنسانى العظيم، ولا بسبب عبقرية بطله ياكو «بيترى بويكولاينن» ولا إيقاعه اللاهث، ولكن لأننا أمام سينما مختلفة تفتح شبابيك عريضة تطل على أفق جديد للفن السابع الذى يحتاج إلى خيال جديد لكى يتطور أكثر.

أنت أمام عمل ملهم، نجح مخرجه وكاتبه تيمو نيكى أن يخطف المشاهد لمدة ٨٢ دقيقة ويجعله يشاهد العمل بعينى البطل الكفيف المقعد الذى يتحرك على كرسى متحرك، رغم معاناة البطل الذى لا ترى الكاميرا طوال الفيلم غيره، لم يطلب منك المخرج إبداء الشفقة على شخص وحيد يعيش فى غرفة، ويتواصل مع سيربا «هوكى كوسى» التى تعرّف إليها على الإنترنت، وهى سيدة بعيدة تعانى من مشكلات صحية ليست بسيطة، أكدت التحاليل مؤخرًا أنها مريضة بسرطان الدم، يتحدثان طوال الوقت عن الأفلام والأغانى والموسيقى، هو مشاهد محترف تربت ذائقته قبل فقدانه النظر، ولكن شغفه بالسينما لم يتوقف، ومع هذا لم يرغب فى مشاهدة فيلم «تيتانك» لأسباب وجيهة، وهى على الجانب الآخر تعتبره هو الخاسر بسبب عدم مشاهدته له، لا توجد ملامح للشخصيات التى شاركت فى العمل، توجد فقط ملامح ياكو البطل وجسده وهو يتعثر وينهض وهو يدخن، الجيران نعرف فقط أنهم هناك من أصواتهم المتذمرة وهى تتحدث عن هذا القعيد الكفيف، الخادمة التى تتردد عليه لا نعرف ملامحها مثله تمامًا، حتى عندما يقرر خوض مغامرة الذهاب إلى «سيربا» آخر الدنيا بمفرده بعد علمه بخبر تشخيص مرضها، وبعد كسبه مبلغًا من المال عن طريق اليناصيب لم تهتم الكاميرا بملامح اللصوص عديمى الشفقة الذين جردوه من بطاقة الائتمان وهاتفه الذى يتواصل به مع العالم، وتركه وحيدًا فى مكان معزول، العالم المشوش الذى أحاط بالأحداث ترك ملامح البطل وانفعالاته تحتل الشاشة طوال الوقت، المخرج حوّل المشاهدين إلى مكفوفين يعيشون حياة بطلهم، الذى يطمئن عليه والده هاتفيًا، ويرفض أن يخرج معه، لأنه سعيد بعالمه وعزلته، المخرج جعلنا شركاء فى حالة إنسانية شائعة، من خلال براعة التصوير واستخدام مؤثرات مبتكرة، تابعنا مواجهة بطل الفيلم «ياكو» قسوة الآخرين وعالمًا غير مصمم لأمثاله من المرضى حين يجرؤ على مغادرة منزله للقاء امرأة تعلق بها، يخبرنا الفيلم بأن كل إنسان بحاجة للحب والتواصل مع الآخرين، حتى «ياكو» الأعمى والمقيد لكرسيه المتحرك والسجين فى غرفته والظلام، رغم أن لقاء «سيربا» سيكون بالنسبة لإنسان فى مثل حالته «بعد رحلتين من سيارات الأجرة وقطار». كشف الفيلم للمشاهد عمق أحاسيس بطله من خلال اللقطات القريبة التى تكشف العالم الداخلى للشخصيات، ومن خلال روح الدعابة ومواقف الكوميديا السوداء، واستشهادات «ياكو» السينمائية اللماحة، فى النهاية يصل ومعه فيلم «تيتانك»، وتتعرف الكاميرا على ملامح السيدة التى قطع هذا المشوار من أجلها، البطل بعيدًا عن الفيلم ممثل مسرحى فقد بصره فى السنوات الأخيرة، وبدأت تتدهور صحته بسبب إصابته بمرض «التصلب العصبى المتعدد»، تمامًا مثل بطل الفيلم، وذكر مخرج الفيلم أن القصة خيالية، وكما يبدو أنها جاءت منه كبادرة وفاء للصداقة لتحقيق حلم الممثل بدور سينمائى رئيسى، فهذا أول دور سينمائى رئيسى لـ«بويكولاينن»، والمتوقع جدًا أن يكون هذا الفيلم آخر عمل له بسبب تواصل تدهور صحته، وقد جازف المخرج وفريق العمل كثيرًا كما ذكرت بعض المواقع وعملوا بتفانٍ للقيام بتصوير الفيلم مع الممثل، ارتباطًا بوضعه الصحى والتدهور التدريجى فى حالته، فلم يتحمل الفيلم أى تأخيرات فى الخطة الإنتاجية ومواعيد التصوير، حيث لم يكن هناك ما يضمن المدة التى سيكون فيها الممثل قادرًا على المشاركة فى التصوير، هناك من اعتبر حصوله على جائزة «أفضل ممثل» فى مهرجان «كان» هذا العام غير مستحقة، لأنه كفيف قام بدور كفيف، وهؤلاء لم يستوعبوا عذابات شخص مثله، ولم يقدروا ما قام به لكى نشاهد ٨٢ دقيقة من السينما التى لا مثيل لها، والتى ستترك فى وجدان كل من شاهد الفيلم أثرًا شعريًا لن يفارقه أبدًا.