جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

العودة للحالة الطبيعية

ماذا يعنى قرار الرئيس بإلغاء حالة الطوارئ؟ إنه يعنى أن تعود مصر للحالة الطبيعية لأول مرة منذ نكسة يونيو. يعنى أن الجسد العليل فى طريقه للشفاء، وأنه لم يعد فى حاجة للعلاجات الاستثنائية، هذا القانون يتم العمل به منذ ٥٤ عامًا، لأننا لم نكن خلالها أبدًا بخير، حتى ولو تظاهرنا بعكس ذلك، لقد تم العمل به لأول مرة بعد هزيمة يونيو، وكان المبرر واضحًا، فالخنجر الإسرائيلى فى ظهرنا، والوضع كله استثنائى لأقصى درجة، وبعد الهزيمة كانت الرحلة الطويلة نحو الانتصار، وما تلاه من محاولة محو آثار الحرب، وبينما كان سم جماعة الإخوان وتنظيماتها المختلفة يسرى فى عروق الوطن، كان الرئيس السادات حالمًا ورومانسيًا، وظن أنه آن الأوان لجمع شمل المصريين، ألغى قرار العمل بالطوارئ فى ١٩٨٠، لكن رصاصات الغدر ردت على قراره، تم اغتياله بعد وقف العمل بالطوارئ بـ١٨ شهرًا، فى رد عملى يقول هل كان إلغاء الطوارئ وقتها مصيبًا أم مخطئًا، فى اليوم التالى للاغتيال عاد قانون الطوارئ لأن الدولة كانت تواجه معركة وجود، حسمت الموجة الأولى من المواجهة مع الإرهاب فى أول الثمانينيات، لكن لم يجد مبارك بدًا من استمرار قانون الطوارئ، ليس فقط لأن تعابين الإخوان كانت رابضة فى الشقوق، وكان هو يقدم لها الطعام بنفسه، ولكن لأنه لم يكن لديه إنجاز حقيقى على مستوى الناس، لجأ مبارك لتسكين الأوضاع، لجأ لتقديم الرشاوى السياسية للنخبة التى أعلنت العصيان على السادات، قسم البلد على العائلات الكبرى، ورعايا السفارات، وقيادات الأحزاب القديمة، وألقى للبسطاء بعض الفتات فى صورة دعم، سياساته أدت لاقتناع جميع الباحثين فى الغرب بأن الإرهاب صيحة احتجاج على الفقر والتهميش، بمعنى أن المحرومين من ثمار التنمية فى الصعيد يحملون ضده السلاح لأنه لم يكن عادلًا أو لأنه «فاسد» كما كان يصفه الإرهابيون، اتضح بعد ذلك للجميع أن الإرهاب مرض عقلى ونفسى يعتقد فيه الإرهابى أنه رسول من الله لهداية البشر، وأن من حقه قتلهم أو ضربهم حتى يعيدهم إلى «طريق الله»، كان الإخوان أول من زرع هذه الفكرة، لكن الإعلام أيام مبارك كان يدلل تنظيمات الإخوان الإرهابية بأسماء من اختراعه، فهو يسمى بعضها «الجهاد» أو «الناجون من النار» أو «طلائع الفتح»، ولا يقول أبدًا إنها أطياف من لون واحد يسمى الإخوان، غياب الإنجاز الاجتماعى جعل استمرار الطوارئ فى عهد مبارك أمرًا حتميًا، أذكر وأنا صغير أننى قرأت حوارًا للأستاذ أسامة أنور عكاشة كان يقول فيه إن مشكلة مصر أنه لا يوجد لديها مشروع قومى.. وأننى سألت نفسى ما هو «المشروع القومى» هذا.. الذى نسمع عنه ولا نراه؟!.. اليوم تنخرط مصر فى مشروع قومى ضخم، فى ثناياه عشرات الآلاف من المشاريع الصغرى فى كل مكان فى مصر، الآن يوجد مشروع «حياة كريمة» فلا يستطيع إرهابى أن يضلل البسطاء ويقول إن الدولة تحرمهم وتعطى غيرهم، الآن يعترف الخصوم قبل المؤيدين بنظافة يد المسئولين وترفعهم «المستويات العليا تحديدًا»، الآن استطاعت مصر اللعب بمهارة فى الإقليم، وفككت التحالفات الإقليمية ضدها، وبالتالى منعت مصدرًا من مصادر التآمر ومحاولات هز الاستقرار، على مستوى آخر حسمت بطولات وتضحيات الشرطة والجيش المواجهة مع العناصر الإرهابية والأجنبية فى أنحاء البلاد، وبالتالى استقر الأمن.. أكثر ما يبعث على الاطمئنان فيما يجرى أن كل المراحل التى مرت بها مصر منذ ٣٠ يونيو، تبدو منطقية، لمن يريد أن ينظر بإنصاف، تبدو أيضًا هذه الخطوات نتاج عقل مرتب وواعٍ، يستطيع أن يضع «خطة».. فى المرحلة الأولى تم الخلاص من جماعة ليست لديها أى خبرة، وتريد فرض سطوتها على الدولة المصرية، ونتجت عن ذلك حالة صراع واضطراب استمرت طوال حكم الإخوان.. كان يمكن أن تستقر الأمور سريعًا لو اعترف الإخوان بفشلهم وقبلوا سيناريو المشاركة، لكنهم كشفوا عن وجههم الحقيقى وأعلنوا حرب الإرهاب، هنا كانت المرحلة الثانية، خاضت الدولة الحرب ضد الإرهاب حتى حسمتها، المرحلة الثالثة والتى كانت تسير بالتوازى مع الحرب على الإرهاب كانت إعداد البلاد للانطلاق.. البنية الأساسية، والطرق، والموانئ، والقطارات، كلها كانت لبنات فى خلق دور اقتصادى إقليمى لمصر، سواء كمركز إقليمى للطاقة، أو كمعبر للتجارة العالمية، أو كحاضنة للاستثمارات العالمية، بعد هذه المراحل الثلاث تأتى المرحلة الرابعة وهى مزيد من الثقة مع المجتمع الدولى، الاستثمار الأجنبى، الانطلاق وجنى العوائد.. والمعنى أن مصر عادت للحالة الطبيعية لأول مرة منذ ٥٤ عامًا.. فمرحبًا بمصر التى اشتقنا لوجهها الحقيقى.