جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

العنف داء يقضي على الأخضر واليابس

يعرف علماء النفس العنف بأنه تعبير عن القوة التي تستخدم ضد الاخر بصورة متعمدة بقصد الاذلال أو إصابة الاخر بالمهانة أو العجز أو إكراه الاخر للخضوع وارتكاب افعال لا يجب أن يفعلها مما يترك في نفس الشخص المقهور آثاراً مؤذية جسديا أو نفسيا أو اجتماعيا أو قانونيا ،ويطلق على مثل هذه الأفعال "القمع والإذلال" سواء كان القمع بالاعتداء  الجسدي أو الاذلال النفسي، ومن اخطر أساليبه الإبادة الجماعية التي حدثت في العصور الوسطى من الحكم النازي أو الغزوات التي تسترت بنشر الفكر الديني أو السياسي أو العقائدي في داخل الديانة الواحدة، والتاريخ حافل بالأمثلة والتي لم تتوقف بعد .
وتظهر أساليب العنف بتأثيرها بدنيا ونفسيا وجنسيا سواء استخدم فيها الضرب او التهديد بالضرب، ولعلي قصة احد المهاجرين المصريين الذي هدد ابنه الذي اعتاد التأخر عقب انتهاء اليوم الدراسي باللعب مع زملائه بالقول "لو تأخرت ثانيا أدبحك إنت فاهم" والتزم الطفل خوفا إلا انه بعد بضعة ايام تأخر بعد الانصراف بلعب الكرة مع زملائه، وبعد انتهاء اللعب تذكر الطفل تهديد والده، فبدلا من الذهاب الى البيت توجه الى قسم الشرطة شاكيا والده، وما كان من الشرطة إلا انها توجهت للقبض على الأب الذي نسى حتى كلمات التهديد، ولما تذكر قائلا انها مجرد كلمات للتخويف حيث ليس من المعقول ان يذبح الأب ابنه إلا ان الشرطة حذرت والد الطفل انه في حالة تكرار مثل هذا التخويف سوف يلقى عقابه الذي قد يصل إلى حرمان الاسرة من ابنهم لأنهم غير مؤتمنين على تربية أطفال. 
ومن أساليب العنف الإيذاء النفسي للآخر سواء ابنا او زوجة، وذلك بجرح مشاعر الآخر أو إتيان أي فعل كالسخرية أو النبذ أو الاهمال، مما ينتج عنه إيذاء من الكبير للصغير، سواء كان احد الوالدين أو من المعلم للطفل، كما قد يكون الإيذاء نفسيا دون عمل مؤذ كالضرب او التهديد بالضرب او الحرمان، فقد يكون السلوك هو اللامبالاة والإهمال أو التفرقة بين طفل وآخر بسبب النوع او الذكاء او الانتماء كأن يكون طفل من أم غير شقيقه من الأم الاخيرة.
وفي جميع الاحوال فإن الايذاء بأي صورة من الصور قد يلازم الطرف الضعيف الذي وقع الاذلال عليه مدى حياته منعكسا على تصرفاته السلوكية ضد الاخرين وصولا الى الايذاء النفسي على الغير، وقد لا يدري الآباء ان ما ارتكب ضد الأبناء سيدفع ثمنه ذات الأبناء ومعهم كل او بعض مجتمعاتهم، وهذا ليس خافيا علينا في هذه الحقبة التاريخية شديدة الصعوبة.
وقد يترجم عنف الايذاء بكل صوره الى جرائم كبرى ضد أفراد آخرين، بل وضد المجتمعات المحلية والعالمية، وما الاٍرهاب إلا صورة من صور العنف كخطف الأفراد والطائرات والسفن والألغام والتفجير وصولا الى جرائم الحروب العدوانية وليس الدفاعية. ولعلي من هذا المقال أحذر الآباء والمعلمين والقائمين على دور الإيواء ألا يعاملوا  الصغار بأسلوب التهكم والتشهير بهم أو النقد اللاذع والمحرج لاسيما أمام الآخرين وفي ذلك يقول الشاعر:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً.. صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه 
فعش وحيدا أو صل أخاك، فأنه.. قارف ذنب مرة ومجانبه 
أذا أنت لم تشرب مراراً على القذى.. ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه ؟ 
والعنف لا يقتصر فقط على الصغير من الكبير، أو المعلم من المتلقي، أو من بيده السلطة ضد الآخر كالأزواج والآباء ضد الزوجات والأبناء، بل من العنف ما هو سلبي السلوك كالكآبة المستمرة والبكاء والامتناع عن الطعام والصمت الحزين والإهمال في المظهر والملبس والانسحاب من الاجتماع مع الآخرين سواء من الاقارب او الزملاء وكل هذه السلوكيات لا تصيب صاحبها فحسب، بل تمثل ضغطاً وإيذاء معنوياً على الآخرين المصاحبين لمثل هذه الشخصية، ويطلق على صاحب هذه التصرفات بالإيذاء السلبي، بل هناك أساليب عنيفة تؤذي صاحبها كما تؤثر ايضاً على الآخرين يطلق عليها عنف الرغبات المدمرة، مثل الجشع المدمر لصاحبه، والوقوع تحت الادمان لأي نوع كان حتى ما يأتي في حيّز المباح أو المتاح مثل شراهة الطعام والمخدرات والكبرياء والتعالي على الغير، ومثل هذه الشهوات لا حدود لها.
أما مواقع العنف فقد يكون أسرياً كعنف الآباء على الأبناء باللفظ او بالضرب او حتى التهديد به، وقد يكون عنفا بين الازواج كأحدهما على الآخر، وليس بالضرورة عنف الزوج على الزوجة، فللزوجات ايضاً أساليبهن الخاصة بطبيعتهن ضد أزواجهن. 
أما عنف الرؤساء ضد المرؤوسين فقد يتمثل في الإيذاء النفسي، كالتعنيف أو التهديد بالخصم من المرتب والذي قد يصل الى التهديد بالفصل أو الاستغناء عن العمل، لاسيما اذا لم تكن هناك قوانين حامية للعاملين ضد تعسف أصحاب العمل مما ينتج عنه إيذاء نفسياً قد ينعكس على الاسرة وعلى المجتمع الكبير أيضاً.ومن الصور البارزة للعنف ما نشاهده في عصرنا هذا من حروب داخلية ليست من دول معادية لأخرى، بل من داخل المجتمعات لا سيما العربية في منطقة الشرق الأوسط ممثلة في صور دينية أو عقائدية بأهداف سياسية وغير سياسية، وهذا ما سنتعرض إليه في المقال التالي.

الرئيس الشرفي للطائفة الإنجيلية