جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

في سيناء.. البناء والأمان يملآن الفراغ

عطفاً على حديثنا الإسبوع الماضي عن نظرية الفراغ، وكيف يتسلل إليه الفساد ويسكنه، محدثاً فيه أفاعيله، التي تكلف الدولة، فيما بعد كثيراً وغالياً، لمواجهته والقضاء على أعشاشه، كما يحدث الآن على أرض المحروسة.. يأتي الفراغ الفكري، كأخطر أنواع الفراغات التي تسلل منه الإرهاب، وسيطرت جماعات الفكر المتطرف على عقول الشباب، وجعلت منهم مجرمين وقتلة، وخونة لأوطانهم.. وربما عانت شبه جزيرة سيناء، طويلاً، من هذا الفراغ، الذي زادت حدته في أعقاب أحداث يناير 2011، وتحولت إلى مرتع لجماعات التطرف والإرهاب من كل حدب وصوب، وتعددت أسماء الجماعات بتعدد الأفكار والتوجهات، وكلها صبت في هدف واحد.. محاولة إرباك الدولة المصرية وزعزعة إستقرارها، وربما كان إعلان ولاية سيناء المتأسلمة، الجائزة الكبرى، التي سعت إليها هذه الجماعات، بتمويل ودعم خارجي، فاق الحدود.
لكن هذه المنطقة التي طال إهمالها، تتغير مع مضي الدولة قدماً في خطط التنمية، بعد أن انتبهت القيادة السياسية لخطورة هذا الفراغ الذي تعانيه سيناء، واستطاع الجيش المصري العظيم أن يدحر كيد هؤلاء، ويعمل على تصفية أوكارهم، ضمن عمليات طويلة النفس، حرصاً على المدنيين الذين يسكنون هذه البقعة الغالية من أرض مصر.. وهو ما أحرز تقدماً في هذا الصدد، للدرجة التي قال عنها المحلل الأمني لوكالة رويترز، أوديس بيركوفيتز، إن هناك (انخفاضاً مستمراً وكبيراً) في عدد هجمات هؤلاء الإرهابيين، على مدى السنوات الثلاث إلى الأربع الماضية، حيث سُجِل ما يقرب من 17 هجوماً بالرصاص و39 أخرى، استخدمت فيها القنابل وزرع العبوات على جانبي الطريق، هذا العام، مقارنة بـ 166 و187 هجوماً على التوالي عام 2017.. وإنه، على الرغم من صعوبة تقدير أعداد المسلحين، إلا أن (إشعارات الموت الأخيرة)، تشير إلى أن أولئك الذين لا يزالون نشطين، هم في الغالب مصريون وفلسطينيين من غزة، في حين كان من بينهم، في السابق، مقاتلون أجانب، من القوقاز وبعض الدول العربية والأجنبية.
لقد أعلنها الرئيس عبد الفتاح السيسي واضحة، (إن تطوير سيناء أولوية)، وفي احتفالات هذا الشهر، بنصر أكتوبر العظيم، أكد أننا (لن نترك أي أرض يمكن تطويرها في سيناء، حتى نجعلها تنمو)، وكان قد افتتح الشهر الماضي، محطة مياه الصرف الصحي الزراعي، في شمال غرب سيناء، بتكلفة 1.3 مليار دولار، لمساعدة الأراضي على العودة للزراعة.. وقد أعلنت الحكومة مؤخراً عن خطة لإقامة 17 مجموعة تنموية زراعية وسكنية هناك، عشرة منها في الشمال، بالإضافة إلى تخصيص منازل حديثة وتقليدية لأهالينا في شبه الجزيرة.
شهادة من أعرق وكالة أنباء عالمية، رويترز، جاءت على لسان مراسلها في مصر، تشهد بالإنجازات التي شيدت في ربوع الجمهورية، وفي القلب منها، سيناء.. تروي للرأي العام العالمي، كيف اندلعت الاضطرابات في شمال سيناء، في أعقاب الانتفاضة ضد نظام الرئيس الراحل حسني مبارك عام 2011، وتصاعدت بعد أن أطاح الشعب المصري بالرئيس محمد مرسي.. وفي نوفمبر 2017، تبنت جماعة ولاية سيناء الإرهابية، المرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية، الهجوم الأكثر فتكاً في تاريخ مصر الحديث، الذي أسفر عن مقتل أكثر من ثلاثمائة شخص في مسجد الروضة بشمال سيناء، وغيرها من العمليات الإرهابية.
رداً على ذلك.. بدأ الجيش عملية في فبراير 2018، ويبدو الآن أنه في أقوى مواقعه في شمال سيناء ـ المنطقة الوحيدة في مصر التي يوجد فيها نشاط مسلح ـ منذ عقد على الأقل.. كما تم تعزيز الوجود الأمني في جنوب سيناء، الوجهة السياحية الشهيرة، التي عانت من بعض تحذيرات من السفر الدولي إليها، قبل أن يستتب الأمر الآن، وتعود السياحة إلى سابق عهدها، نسبياً.
يؤكد بيركوفيتز، إن قدرة تنظيم ولاية سيناء تآكلت أيضاً، بسبب ضعف خطوط الإمداد والتجنيد من غزة، ويرجع ذلك جزئياً إلى تدهور علاقاته مع بعض الفصائل هناك، وعداء سكان سيناء لهذا التنظيم الإرهابي، الذي ماتزال بعض فلوله باقية، وتنتظر القضاء عليها نهائياً، مثلما تم الإعلان مؤخراً عن القضاء على 89 مسلحاً، قتلهم الجيش خلال الأشهر الأخيرة، مقابل ثمانية شهداء من أبطاله.. وعليه، فقد أمّن الجيش مساحات واسعة من الامتداد الاستراتيجي للأراضي المتاخمة لغزة وإسرائيل من جهة، وقناة السويس من جهة أخرى، ولم يعد في الخلف.. وقد قتل العديد من الإرهابيين أو فروا أو استسلموا.. ولا يزال عدد قليل من هؤلاء، حوالي مائتي شخص، نشطاً، بعد أن كان أربعمائة قبل عامين، وثمانمائة في عام 2017، وفقا لمصادر أمنية.. وبدلاً من الهجمات الكبيرة التي كانوا يقومون بها، يعتمدون الآن، على القنص والقنابل محلية الصنع وقذائف الهاون.
في شمال شرق سيناء، عند رفح وعلى طول الحدود مع غزة، تم إنشاء منطقة عازلة على أرضٍ تم تطهيرها، تراقبها عشرات أبراج المراقبة، وتمثل سلسلة أبراج المراقبة ونقاط التفتيش ومراكز الجيش، الحافة الشمالية لشبه جزيرة سيناء وتقوم القوات بدوريات في عربات مدرعة، على طول الطرق التي أعيد رصفها، كما تم إغلاق الطرق الفرعية بأكوام من الرمال، وإزالة بعض المنازل، لحرمان المسلحين من التغطية بين العريش والشيخ زويد، وهي نقطة محورية في مواجهة الجيش لهؤلاء الإرهابيين، على مدى العقد الماضي، وعلى مشارف مدينة العريش في الشمال، أنشأت الحكومة مجمعات سكنية جديدة.. وهذه التدابير تعكس تحولاً كبيراً في الحالة الأمنية في السنتين الماضيتين.
لقد أحكم الجيش سيطرته على أصقاع سيناء، إلا من ذئاب منفردة، يتم تعقبها والقضاء عليها، إنتصاراً للدولة المصرية، والمحافظة على أراضيها.. حدث بالقرب من بئر العبد، حيث احتل المسلحون بعض القرى في صيف 2020، أن اقتحم إرهابيون ملثمون مقهى، كان يشاهد فيه سالم السيد كرة القدم أوائل سبتمبر.. خطفه الإرهابيون مع سبعة آخرين، واتهموهم بالتعاون مع الجيش.. وقال الرجل البالغ من العمر خمسة وثلاثين عاماً، لرويترز، (لقد وضعونا في مكان مغلق حتى لا نسمع أي شيء، ولا حتى صوت الرياح).. وبعد أربعة أيام، حيث كانت أيديهم مقيدة وأعينهم معصوبة، أطلق الجيش سراحهم في غارة ناجحة.
لقد قالها الرئيس السيسي، إن سيناء تتمتع بمكانة راسخة في قلوب جميع المصريين، وأن يوم تحريرها سيظل يجسد ذكرى خاصة في وجدان كل مصري.. فملحمة استرداد الأرض تخطت كونها انتصاراً عسكرياً ودبلوماسياً، بل امتدت لتصبح نموذجاً خالداً لقهر اليأس والإحباط، من أجل استرداد الكرامة عسكرياً وسياسياً.. فلم تكن أبداً الحرب غاية مصر، بل كان السلام هو الهدف الأسمى والغاية الكبرى.. وهذا يولد فينا قوة دفع متجددة، للعمل على حماية كل شبر من أرجاء الوطن، وتحقيق طموحات وحقوق شعبه في حاضر زاهر ومستقبل مشرق، ترفرف عالياً في سمائه رايات الحرية والكرامة، ويظلله الأمن والأمان، ويزدهر فيه البناء والتنمية والتقدم.. فمعركة البناء والتنمية التي نخوضها اليوم جميعاً، لا تقل في تحدياتها وقوتها، عما واجهه الآباء والأجداد على مدار تاريخ أمتنا العظيم، وتلك المعركة تلزمنا أن نصطف جميعاً حول الوطن، نحمي مقدراته ونصون مقدساته، من أجل تغيير الواقع الحالي، وتحقيق مســتقبل أفضل للأبناء وللأحفاد.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين