جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

ذكريات.. فى رثاء المفكر العظيم حسن حنفى

العنوان «ذكريات» وليس الذكريات، فربما لم أتذكر كل شىء؛ فالاسم النكرة أكثر دلالة من المعرفة، وربما يستحيل على الإنسان أن يتذكر كل شىء، وتلك فضيلة النسيان عند «برجسون».

وها أنا ذا أكرر فعل أستاذنا فى حديثى عن تجربته عمومًا وتجربتى الوجيزة معه خصوصًا، ولا أكتب هذا فى سياق التأبين له فهو لم يمت فهو خالد ما خلدت تجربتنا البشرية، فالمفكرون والفلاسفة لا يموتون وقد خلفوا لنا أفكارًا تنفعنا وتستفزنا للتفكير وتساعدنا على التخلص من خرافات الموروث وضغوطات الواقع، وسيبقى فكر حسن حنفى وغيره من مبدعى الثقافة العربية الإسلامية وغيرها ما بقيت تجربتنا البشرية واستمر دوران كوكب الإنسان والحياة.

وإننى لست الأجدر بالكتابة عن حسن حنفى، فقد خلف كتبًا ومحاضرات بالعشرات تنطق عنه وتبين مشروعه، وترك تلامذة وطلابًا نهلوا من علومه وتفاعلوا مع أفكاره بكل طرائق التفاعل الممكنة حتى صاروا أساتذة ومفكرين، تخرجوا فى مدرسة حسن حنفى، وهم أكبر منّى سنًا وعلمًا وأجدر إفصاحًا عن مكنونات مشروع حسن حنفى وتحليله.

وهنا يأتى سؤال: ما هو مشروع حسن حنفى؟ وهل حسن حنفى أصولى كما رماه بذلك بعض العلمانيين أم هو شيوعى ملحد كما رماه بعض المتأسلمين؟

وأجيب من معرفتى به أولًا وكتاباته ثانيًا، مشروع حسن حنفى هو محاولة للبحث عن مخرج عقلانى لأمة محتضرة متخلفة تجاوزها الزمن فصارت فى ذيل الأمم، وهو يحاول أن يوظف التراث الثقيل الموروث بعجره وبجره وبإظلاماته وإشراقاته بخرافاته، وعقلانياته توظيفًا مفيدًا نافعًا لنا فى واقعنا المعاصر، وهو يفعل ذلك فى مئات الصفحات ولا يزعم أنه امتلك الحقيقة المطلقة فى ذلك، بل هى مجرد محاولة، صرّح لى ولغيرى بأنها بداية وحجر فى مستنقع ثقافة راكدة آسنة، ويُلزِم حسن حنفى تلامذته ومحبيه بفهمها والعمل على تجاوزها.

وهنا نتساءل: هل حسن حنفى كاره للثقافة العربية الإسلامية؟ وما موقفه منها؟

وأقول إنه بلا أدنى شك محب لثقافتنا العربية الإسلامية ولغتها، وكان دائم التأكيد على التحدث والكتابة بلغة عربية سليمة، ويزجر من يتكلم بالعامية زجرًا شديدًا يجعله أحيانًا يقاطعه مقاطعة المعلم الغيور على اللغة السليمة، حيث إنه لا يستقيم التفكير العقلانى إلا باللغة المبينة، إلا أنه فى ذات الوقت كان يؤمن ويحض على عدم العبودية لذلك التراث الموروث، وأنه لا ينبغى لنا تقديسه، بل التعامل معه تعامل الند للند لا تعامل التابع الأعمى للمتبوع.

ثم هو يرى فى الرسول الكريم قدوة لنا فى التفكير والوعى لا ينبغى لنا تقديسه تقديسًا أعمى، أو ترديد كلامه وأفعاله كالببغاوات بلا وعى ودون نظر فى متغيرات الزمان والمكان، وهو كأحد عظماء التاريخ علينا استلهام تجربته دون الوقوف عند حرفيتها.

وأذكر قوله فى أحد مؤتمرات الجمعية الفلسفية المصرية، التى هو أحد أعمدتها بل هو حجر زاويتها وأساسها، عندما تحدث عن تجربته فى الحج وما يقع فيه من زحام ومزاحمة وبعض التقديس للحجارة- إنه لا يشك فى أن شخصًا عظيمًا كالنبى محمد لو رأى ذلك لعدل وغيّر كثيرًا من تلك الطقوس، فالنبى كان دائم التطوير للتشريع بما يلائم المصلحة والمنفعة والتوحيد الحقيقى المفيد للبشر.

ثم نقول ما سر تميز حسن حنفى وأساتذة الجامعة بالآلاف والحقل الأكاديمى مكتظ بمن يحملون العديد من الشهادات؟

حقيقة الأمر أن الفرق بين حسن حنفى وغيره كما قالت العرب قديمًا «ليست النائحة الثكلى كالمُستأجرة»، فقد كان حسن حنفى باحثًا متفاعلًا مع أزمة احتضار الثقافة العربية الإسلامية، يغلى صدره دومًا بذلك الاحتضار، وينشغل عقله بانهيار واقعنا وتخلف ثقافتنا، ويحاول أن يجد مخرجًا من مأزقنا الحضارى وتخلفنا الفكرى، رافضًا أى سلطة على العقل إلا العقل ذاته، ولا مخرج لنا إلا بفهم ذلك التراث الثقيل الذى ورثناه دون حول منا ولا قوة، ثم نقده وتحليله وتجاوزه تجاوزًا واعيًا بنقاط ضعفه وقوته.

رحم الله أستاذنا الكبير وفيلسوفنا العظيم حسن حنفى، وأقول إنه على مصر والعرب الاحتفاء به وبتراثه، وتضمين بعض كتاباته هو وغيره من مفكرينا المستنيرين لأبنائنا وبناتنا فى المدارس، بدلًا من الوجوه العنيفة المظلمة التى تشع بالكراهية التى نعلمها لهم ثم نندهش اندهاش الأبله ونقول لماذا يتزايد العنف والإرهاب والتطرف؟