جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

حسن حنفى.. الفقيه الفيلسوف

انتقل إلى رحمة الله الدكتور حسن حنفي، أستاذ الفلسفة وفقيه الدين، كما قال عن نفسه، ولقد قمت بتأليف كتاب عنه اسمه "ثورة العقيدة وفلسفة العقل.. دراسة في فكر حسن حنفي"، عام 2008، وفي هذا المقال نحيي سيرته من خلال كتبه وفلسفته، فالدكتور حسن حنفي صاحب مشروع عقلي فلسفي، ديني دنيوي، خلفيّته ثقافة إسلامية ومعرفة قرآنية، مشروع هدفه نقل الفلسفة إلى الواقع، إلى حقل المعرفة الشعبية، لأنّ الفيلسوف لديه لا يجلس في مكان مرتفع لينظر للنَّاس من علٍ، وإنَّما عليه أن يعمل على تحرير المفاهيم الفلسفية من أجل الوصول بها للثورة من أجل التجديد، ورفع سُلطان القداسة عن مُفسرِّي النّصوص المقدسة.. والثورة التي يراها حسن حنفي هي ثورة عقل ووعي، ولذا فإنَّ كثيراً من كتبه تحمل مصطلح الثورة "من العقيدة إلى الثورة" في أجزائه الخمسة، و"الدين والثورة في مصر" بأجزائه الثمانية، و"من النقل إلى الإبداع"، و"التراث والتجديد"، وغيرها مما يحمل مضمون الثورة والتجديد.

والثورة لدية أيضا تعني الإبداع والتجديد، والحوارات الدائمة النَّقدية مع الغير، وهذا ما جعل فكره وآراءه محلَّ جَدلٍ ونقاش دائم في الساحة العربية والإسلامية، وتلك سمة الشخصيات المؤثرة التي تُزعج من يضعون أنفسهم أمام باب السماء، وتُزعج الذين يريدون إبعاد العقل عن فهم النّص المقدس فهماً يُواكب الحياة وينسجم مع الواقع.. وبين أولئك تُوجد نخبة في الوسط ترفض سيادة حرّاس السماء، كما ترفض سلطان العقل وحده على أوَّليات الحياة، وهؤلاء لا يعترضون على حسن حنفي في إبداعاته، وانَّما الإشكال الظاهري في الموقف من القيم ومن إيمان قد يتغاضى عن الاستبداد والظلم والأثرة، أو عندما يُفهم الصبر على أنه خضوع للثالوث الآثم: السلطة والجنس والدين، كما يراه من يريدون احتكاره، فالله سبحانه وتعالى عندما أنزل الرُّسل بالكتب السماوية أنزل معهم الميزان، وهو ميزان معنوي للوصول بالعدل إلى منتهاه دون تطفيف، إذ لا قيمة للحياة دون العدل، ولا قيمة للعدل دون وجود سُلطة تُقيمه بالقسطاس، وتلك السُّلطة دوما ما تنحرف بالميزان، لذلك ظلَّ معظم فترات التاريخ البشري مائلاً، والميل دوما لليمين كما يرى حسن حنفي في كتابه "اليمين واليسار في الفكر الديني"، فاليمين يأخذ من الدِّين ما يراه صالحاً للحكم، ففي الدِّين الصبر على الأذى والمكروه وطُغيان الحاكم، ومن بعض علماء الدِّين وكهنته تَستمد السلطة بعض الشرعية وما يُبرر ظُلمها، استبدادها، وفي الكفة اليسرى من الميزان يقبع الثائرون ضد هذه المفاهيم المنحرفة والمحرّفة للأديان والقيم، ويرون الدين دعوة للعدل والمساواة والأريحية والإخاء، وفي ذلك الجانب نجدُ حسن حنفي متمسكاً بمواريثه الإسلامية الداعية للحقيقة، نجده ينطلق من النّص القرآني، مستلهماً منه تلك المصطلحات التي يراها ضرورية لحياه الإنسان، فالله سبحانه وتعالى يدل على الأرض والخبز والحرية والعدل والعتاد والعُدَّة وصيحات الفرح، إنَّه كل شيء بالفعل.

طبعاً لا يمكن الادعاء بأنه يقول بوحدة الوجود كما ذهب الحلاج وابن سبعين وابن عربي، لا، فهو يُريد عودة الفروع لأصولها من أجل إعادة بنائها، لقد رأينا صراعات دامية في التاريخ البشري بين الذين جعلوا أنفسهم- دون استحقاق- حُراس السماء، وبين الذين وَعوا حقيقة الرِّسالات، أو بين أهل الدراية وأهل الرواية، بين النقل والعقل، بين المحافظين والأحرار، أو ما اختصره حنفي بالصِّراع بين اليمين واليسار، وقد وُجدت تلك الإشكالية في كافة الأديان في اليهودية بين الفِريسيِّين والصَّدوقيِّين، وفي المسيحية بين الكاثوليك والبروتستانت، وفي الإسلام ظهرت تلك النزعة عند المعتزلة، وهم أحرار الإسلام، فهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، ثم برهنوا بالأدلة العقلية على وجود الله، وتعمَّقوا في معنى العدل وجعلوه أهمَّ أُصولهم، حيث نظروا لعدل الله فرأوا أنَّ ذلك لا يكون إلاّ بتقرير حرية الإرادة، وهي الحرية التي رفضها ملوك بني أمية وبني العباس، لأنَّ حرية الإرادة ليست حرية دين فقط.

ويرى حسن حنفي أنَّ أهل الرواية عندما انتصروا كفّروا كل صاحب قلم ورأي وفلسفة، والتهمت النيران مكتبات فلاسفة المسلمين من شرق البلاد لغربها، وكانت البداية الحقيقية للانهيار البطيء للحضارة الإسلامية، ودعاة وفقهاء يعتقدون لأنفسهم العصمة، ويكيّفون حياة المسلمين حسب ما يرونه الحق المُطلق، وهي سلطة دينية ارتبطت بالسلطة السياسية، ثم شباب مُتطرف يرى في قتال ومواجهة السلطة السياسية ومعها الأبرياء في هذه المجتمعات ضرورة دينية، ويحكمون على الجميع بالكفر، يشوهون الإسلام ويضعونه في مواجهة القوى العالمية الاستعمارية، كل هؤلاء فرّغوا الأديان والمجتمعات من المفهوم الحقيقي لدين الله واختزلوه في عبارات.. وفي الجانب المُقابل، نجد علماء لهم رؤية أخرى لدور الدين الحقيقي في المجتمع، دور يرفض الخضوع والاستسلام، ويدعمُ مفاهيم الثورة والمقاومة ضد الاستبداد الداخلي والاحتلال الأجنبي، وأصحاب هذه الرؤية يُريدون إحياء الذات والثقة بالنفس، ومن هؤلاء بلا شك، د. حسن حنفي، الذي يقول في كتابه "مقدمة في علم الاستغراب": يجب إخضاع الغرب للدِّراسة من منظور الذات كما أخضعنا للدراسة من منظوره.. إنَّه يرى أنَّ الثقة بالنَّفس وتجديد التراث وتحرير المفاهيم من دراستها الوهمية، هي المقدمة الحقيقية لجعل المجتمعات الإسلامية تُواجه مصيرها بنفسها، عندما تتسلَّح بالمناعة الفكرية والثقافية والسياسية، وحسن حنفي وهو في سبيله لإحياء تلك المفاهيم كان من الطبيعي أن تصطدم رؤيته مع رؤية الجانب الآخر، الذي يشمل بعض الخطباء والشيوخ والمتطرفين، وجميعهم يستعدُون العامَّة عليه، ويأخذون من كتبه ما يُؤيد وجهة نظرهم..

ولكن المعارك الفكرية التي خاضها حسن حنفي كانت تبدأ من جانبه هو، صحيح أنه يكتفي بالقول دون الدخول المستمر في أي معركة، ولكنه على العموم هو الذي بدأ، لقد اكتفى حسن حنفي بالكتابة أو القول، ومهاجمة رجال الدين بسبب تصوراتهم السياسية والدينية، ثم ترك لهم ردود الأفعال، يقول ويردُّون، ينفعلون ولا ينفعل، يهجمون عليه فلا يرد، مكتفياً بما قاله أو كتبه، وذلك لأنه يعلم جيداً أن أي معركة تنتقل ساحتها للعامة فإنَّ الفشل مصيرها، لأن أهل النقل بصفة عامة يفوزون لأنهم يستعدُون العامة على أهل العقل والنظر، ويستمر في إذاعة فكره، حيث يرى بأنَّ الرسالة خطاب من كاتب إلى قارئ،  لذلك كتب: "من العقيدة إلى الثورة" للثائر الذي يريد تأصيل ثورته ومدِّ جذورها في الموروث الثقافي، وللمُحافظ ليقلِّل من محافظته، ويسهم في مسار التقدم الاجتماعي، وللعلْماني كَيْ يعرف أنَّ التُّراث الذي يدعو للقطيعة معه يمكن أن يجد فيه بُغيته، وللسَّلفي الذي يتصور العقائد غاية في ذاتها، وعالَماً مُغلقاً يحتوي على الحقائق في ذاتها، وليست مجرَّد أدواتٍ لتغيير الواقع أو  لتطويره، وللمُتكلم ليُذكِّره بأنَّه لا يوجد عِلمٌ مقدَّس؛ بل علمٌ اجتماعي وأيديولوجي، يدخلُ في صراع الأفكار كجزء من عملية الصراع الاجتماعي، وللعالِم الاجتماعي كي يعلم أنَّ الصِّراع الأيديولوجي في المجتمعات هو العامل الأكثر حسماً في عمليات الصراع الاجتماعي.. وأما كتابه "من النَّقل إلى العقل" فقد كتبه لكلِّ من يُريد الحُكم على الذَّات العربية الإسلامية، وأزمة العقل العربي والمسلم الذي يتخبط للخروج من إشكالية: النقل والإبداع، وكتب "من النص إلى الواقع" للفقيه من أجل أن يُجدِّد ويطوّر طرق الاستدلال ويغلِّب المصلحة العامة، وهي أساس التشريع، على حرفية النص، وإعطاء الأولوية للواقع على النص.

وحسن حنفي وقع في خطأ عندما جعل نفسه فقيهاً وحكيماً، محدثاً ومتكلماً، باحثاً وواعظاً، هذا- ربما- ما جعله يتوارى خلف أقوال الآخرين ليستر تناقضه أكثر مما يتوقى من مواجهة الآخرين، فهو مثلا يُشيد بسيد قطب الذي تأثر به، ورأى أنَّ سيد قطب لو لم يدخل السجن لكتب من العقيدة إلى الثورة، ولو كان هو (حسن حنفي) دخل السجن بريئا لكتب "معالم في الطريق"، ولكن المُفارقة المتناقضة تكمن في أن سيد قطب ألّف "العدالة الاجتماعية في الإسلام" قبل أن يتعرف على الغرب، وحسن حنفي كتب كتبه بعد أن تعرف على الغرب، سيد قطب سافر إلى أمريكا تنويرياً وعاد سلفيا إخوانياً تكفيرياً، كما أنه لم يدخل السجن بريئاً، ولكن حسن حنفي سافر إلى أوروبا وهو إخواني وعاد وهو تنويري، فليس هناك شبه بينهما إلا في المسيرة الأولى لقطب والأخيرة لحنفي، وهو خطأ يبرئه منه مشروعه الفكري الفلسفي المتكامل.

على كل حال نجد أنه رغم حجم الانتقادات التي وُجِّهت لمشروع حسن حنفي بسبب ميله لتقمص دور المفكر والداعية، والمزج بين منطلقات الفيلسوف وتوجّهات الشيخ، ولكنه يبقى مع ذلك صاحب مشروع، وصاحب رؤية، ننقدها ونحترمها، نأخذ منها ونردُّ عليها، إنّه مشروع يقوم على أسس ثورية عقلية تحررية، والتحرر هنا مقدمة لثورة العقيدة ولفلسفة العقل، ثم التحرير يشمل الأرض والإرادة، كما يشمل الدين والفلسفة، وذلك بعد إحياء علوم الدنيا في مقابل إحياء علوم الدين.. رحم الله الفيلسوف الفقيه حسن حنفي.