جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

إلى أمى «نوال» فى يوم ميلادها

 

هى طفلتى الوحيدة وفقدت طفلتى الوحيدة. هى حياتى وأحلامى وأفراحى وأحزانى، هى سر قوتى وسر مأساتى.. هى أنفاس تبقينى حية، وأنفاس تميتنى حتى الآن وحتى أرحل مثلها، وأعانقها تحت التراب، ستظل الطفلة الشجاعة الذكية الثائرة الطيبة المرحة بضحكتها الفضية وصوتها النابع من الشمس، الحانية، النبيلة، بكرامتها التى لم تنحن وإرادتها التى لم تكسر، لا شبيه لها بين النساء والبشر.

شعرها أبيض ناصع كالثلج، متطاير كالحرية، جسمها قوى رشيق، عيناها سوداوان كما أصالة الأرض، شاهقة كالجبال، عنيدة المزاج، رقيقة الطباع، حلوة الصحبة، تلهم كل منْ يحتاج إلى إلهام، وفية، مخلصة، دءوبة، كلمتها واحدة لا تتراجع فيها، لا يهمها مدح أو ذم أو حياد، لم يمتلكها أحد أو شىء من الأشياء، سخية العطاء، لا تطلب المقابل، تزدهر مع التحدى، تتألق مع الصعاب، من الظلام الحالك تصنع شمعتها، تقول ما لا يُقال، تفعل ما لا يُفعل، ليس لها عمر مثل البحار والأنهار والأشجار، تغلق الباب وتكتب فتنسى الزمن والطعام والشراب، والناس، والنوم والراحة، كانت تحب الجوافة وفطيرة الذرة والعنب والبلح الزغلول والخبز الجاف والجبنة القريش والشاى بدون سكر، والمشى بين السهول والغابات وعلى شط النيل، تحب الأغانى القديمة لعبدالوهاب وداليدا وليلى مراد، تعشق الرقص على كل الإيقاعات، هى الغجرية المتحضرة، والهادئة الوديعة والجامحة، هى أسرار غامضة، وهى الحقيقة الساطعة، تكره الزخارف بكل أنواعها وأشكالها، تكره الأدوية، تكره أنوثة الجوارى، تكره ذكورية العبيد، تكره الهدايا، تعيش اللحظة الحاضرة بأقصى كثافة وطاقة وتركيز وشغف، هى عادية وغريبة، طبيعية وغير طبيعية، نهمة وقنوعة، موجودة وغير موجودة، ساكنة وفى الهواء محلقة. 

فى عيد ميلادك يا أمى «نوال» ٢٢ أكتوبر، لا أجد ما أقوله، يكفى ويفى، ما أنتِ عليه.. أختم قائلة، بكل بساطة، أنتِ الماء والتراب والنار والهواء، وسأستمع لأغنية من أغنياتى وأغنياتك المفضلة لعبدالوهاب «يا نوال فين عيونك»، وهى أغنية «ياما بنيت قصر الأمانى» التى بالصدفة الغريبة أذاعتها الإذاعة يوم ٢٢ أكتوبر يوم ميلادك العام الماضى الساعة ١ ظهرًا فترة عبدالوهاب، وأدهشتنا معًا هذه الصدفة. 

نوال، أمى، وطفلتى الوحيدة...... اطمئنى «عاطف» أخى بخير، وأنا بخير.. مش معقول نكون قد تغذينا على دمك ورضعنا من لبنك وتشكلنا فى رحمك ولا نكون بخير.. أردتِ أن نكون ونظل بخير، ولن نخذلك، طلباتك أوامر يا أمى لكن لا أخفيكِ سرًا، الحياة بعدكِ أداء واجب أحتمله وأقوم به على أكمل ما أستطيع يقولون «سُنة الحياة»، وأنا لا أحب «سُنن الحياة»، ولست مضطرة للقبول بها أو الخضوع لها، لا تخافى يا أمى، لن أنتحر، ولن أفعل شيئًا يؤذينى، إنما الأمر كله بعدكِ لا يستحق، ولا يخدعنى ولا يغرينى.. لم أعد أنام يا أمى.. الأقراص المنومة تحتج.. لم أعد أنام يا أمى كأنما النوم راحة، وأنا أرفض أن أرتاح وأنتِ لستِ معى؟ 

أرسل لك فى يوم ميلادك ٢٢ أكتوبر، باقة من الورود لا تذبل ونزفًا لا يود التوقف، وبكاء وحيدًا دافئًا مثل أحضانك التى اختفت. 

من بستان قصائدى

مهداة إلى روح أمى نوال السعداوى التى رحلت ٢١ مارس ٢٠٢١– عيد الأم.

مع تقدم العمر.. أنظر الى أمى فأرانى 

أنظر إلى نفسى.. فأرى أمى

مع تقدم العمر.. أصبحت أشبهها 

الخصلات البيضاء.. الروح الساخرة

الزاهدة فى الأشياء.. مع تقدم العمر 

تذوب الحدود بينى وبين أمى .. أصبح لى فصيلة دمها النادرة

ورنة ضحكتها الغامرة.. قلبها العفوى الطفولى 

رقتها المفعمة بالصلابة.. حيوية قتلتها أخطاء الأطباء 

قلمها العاشق لشدو الكتابة.. مع تقدم العمر

تبادلنا الأدوار.. أصبحت ابنتى 

ولم تعد أمى.. حزنها حزنى 

أمدها بأفراحى المشكوك فى أمرها.. وهمها أصبح همى 

الآن ألتفت حولى.. فلا أراها ولا أسمعها

أشياؤها الحميمة موجودة.. وهى غائبة أين ذهبت

أين اختفت؟.. بحثت فى كل مكان

بعناء ودون جدوى وبكاء.. كانت فى كل مكان 

واختفت من كل مكان.. لكل منْ يهمه الأمر 

ابحث معى عن أمى.. لكل منْ يعنيها الأمر 

ابحثى معى عن أمى.. ممشوقة القلم والقوام 

والكرامة والأحلام.. فاتنة سمراء بشَعر لون الثلج

خطواتها رشيقة تقفز إلى الخطر.. عينان يقظتان تلمعان بلون الليل 

تضيئان النصف المعتم من القمر.. لن تخطئوها 

فهى لا تشبه أحدًا إلا نفسها.. إن وجدتوها 

أخبروها أن ابنتها الوحيدة.. بالألم تنزف 

إلى أحضانى أرجعوها.. إلى قلمها وسريرها 

إلى ابنها «عاطف» ومعطفها الأزرق.. من رحمها جئنا 

لكنها كانت طفلتنا.