جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

لا حقيقة مطلقة.. ولا رأى نهائى

 

سألنى صديق أثق فى حسن تقديره للأمور: لماذا تتخذ فى كتاباتك دائمًا مواقف عامة ومحايدة؟! عليك أن تحدد انحيازاتك. إما أن تكون مع الحكومة أو المعارضة، مع تيار أو حزب أو أى فريق له اتجاه محدد، ومعروف بانتماءاته ومواقفه.

والحقيقة أننى لم أكن أرى الأمر من هذه الزاوية، فالمؤكد، من وجهة نظرى، أننى بالطبع لى انحيازاتى، ولى خياراتى ومواقفى التى لن أتوقف عن الدفاع عنها، والانتصار لها، بما يرضى ضميرى، ويرتاح له عقلى، خصوصًا أننى لا أرى فى نفسى كاتبًا سياسيًا متخصصًا، أو حتى مراقبًا أو محللًا لما يدور فى كواليس الحياة السياسية، بل ربما لا تعنينى ألاعيب السياسة من قريب أو بعيد، اللهم إلا فيما يتعلق ببعض الأمور التى تتماس مع ما أؤمن به من قواعد وقيم، وفيما يتعلق بحياة الناس فى بلدى، وأمورهم البسيطة والمهمة والجوهرية، وأستطيع الزعم أننى أرى الأمور برؤية أكثر اتساعًا، وقربًا، فأنا أؤمن بالدولة وبالشعب، بالحياة فى عمومها وبساطتها وبالحرية الكاملة، أؤمن بالناس وقدرتهم على تشكيل المستقبل وصناعة الأمل، أؤمن بتفاصيل الحياة اليومية، وقدرتها على تشكيل الغد وصناعته وتغييره، فلا نصر دائم، ولا هزيمة مطلقة.. وقبل ذلك كله، أؤمن بأنه لا حقيقة نهائية ومطلقة، ولا رأى نهائى وقاطع، كل الآراء تقبل المناقشة والمراجعة والتدقيق، حتى المعلومات البسيطة، فى عصرنا هذا أصبحت تحتمل الشك، ولا غنى عن ضرورة التأكد منها وربطها بسياقاتها ونتائجها المتوقعة، بل وأشخاص من يتداولونها.

ما أسهل توجيه الاتهامات هنا وهناك، وادعاء البطولة الزائفة، ودش الكلمات الحماسية والخطب النارية، المليئة بالجمل الإنشائية والعبارات الرنانة والفارغة، ما أسهل وصم المخالفين بالخيانة، ونزع صك الوطنية عن الجميع. ولكن.. ماذا لو اخترت، الانحياز للوطن، وحده، لا شريك له؟! لا سلطة ولا معارضة؟!

ماذا لو اخترت الانحياز لقيم الحرية والعدالة والجمال، وإعمال العقل قبل كل شىء؟!

ماذا لو اخترت الانحياز للحقيقة المجردة، المبنية على معلومات مؤكدة وثابتة؟! ودون ميل، أو تزييف لحساب هذا أو ذاك؟!

لن ترضى عنك الحكومة ولا المعارضة. لن تجمع «لايكات» على «فيسبوك»، ولا «فلوورز» على «تويتر»، لن يأتيك مندوب من «الجزيرة» أو «دويتش فيله» للاتفاق على مقالات مقابل عدد من كلمات السباب، ولن يستضيفك التليفزيون المصرى، أو قنوات المديح والتسبيح بحمد الحكومة لملء ساعات من «الكلام الساكت»، والرغى الذى لا يقول شيئًا، الفارغ من المحتوى والمضمون، اللهم إلا بعض المعلومات هنا وهناك، وبعض الهجوم والإدانات من الطرفين، وربما يتفق الخصمان على مهاجمتك، والتقليل مما تقول، ووصمك بما فيهم، لا فيك، من اتهامات، أو محاولات التشويه.

ليكن إذن.. هى تكلفة الانحياز للوطن وللحقيقة، وللقيم التى نؤمن بها، فما أسهلها من تكلفة، وما أغنى مثلى عن توسلها أو طلبها. فالحقيقة الثابتة، من وجهة نظرى على الأقل، أننا كلنا نحب ونكره. نميل إلى أشخاص، ربما لو لم تكن لنا ذكريات وحكايات وأيام معهم، ما كنا لنعرفهم، وما كنا لنتوقف عن انتقادهم وذمهم، ولكن لأنهم الأهل أو الأقارب والأصدقاء، فإننا نتغاضى عن عيوبهم، ونتعامل معهم وكأنهم لم يمسسهم السوء أو الغرض، فإذا قالوا فإنما قولهم الحق، وإن فعلوا فلهم مطلق الحرية.

وفى الصحافة والإعلام، كما فى الحياة تمامًا، لا مكان للحياد التام، أو المصداقية المطلقة، لا مكان لعدم الانحياز، ولو بالحسابات البسيطة، فالميل والهوى، أو قل «الانحياز» إن شئت التخفف قليلًا من وطأة اللفظ، سمات إنسانية طبيعية.. وحده فقط، من يبيت نية الكذب والتدليس، والابتزاز، هو من يملأ الدنيا كلامًا عن المصداقية والحياد والدقة والمهنية والخبرة الواسعة وعدم الانحياز والتجرد التام من العواطف والانفعالات الإنسانية البديهية. لا يملك كائن من كان أن يكبت مشاعره ورغباته، أو ميوله الشخصية، إذا ما جاءت لحظة الكتابة أو الحديث، فما بالك إذا ما اتصل الكلام بشئون السياسة والسلطة والثروة والحكم؟ أو ما يتصور الكاتب أنه مستقبل أبنائه وجيرانه وأصدقائه؟! هنا تسقط الأقنعة، ويتهاوى جدار «الموضوعية المزعومة»، و«الحياد الوهمى»، فهنا تغلب الانحيازات الشخصية، وطنية أو قومية، أو حتى عائلية، وهنا تتغلب لغة المصالح الخاصة والعامة على حدٍ سواء، ولو كانت مبنية على قصور فى الفهم، أو خطأ فى التصورات، أو عيب فى الاستدلال.. أنت فى حياتك البسيطة العادية، هل تحب أولادك جميعًا، بنفس الدرجة، وبحياد وموضوعية كاملين؟! كلنا سوف نقول: «نعم بالطبع»، لكن الأعرابية التى سئلت: من أحب أولادك إليك؟ كانت أكثر مصداقية منا جميعًا، قالت: المريض حتى يشفى، والمسافر حتى يعود، والصغير حتى يكبر.

هذه الانحيازات العاطفية البسيطة والعفوية، واحدة من سنن الحياة وفطرتها، واحدة من علامات الضعف البشرى وغلبة العاطفة.. كاذب من يدعى غير ذلك، أو من يحاول أن يملأ الهواء بالكلام «الفارغ» عن التجرد التام والحياد الكامل والرؤية من بعيد.