جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الذين اتسخت قلوبهم

أعتذر بداية لقارئي الكريم على أن صدمته بهذا العنوان، ولكن هكذا تمضي الدنيا بين خير وشر ونور وظلمة، وهكذا هم البشر- ونحن منهم- تتلون قلوبنا بالأبيض والأسود، وليست لديَّ إحصاءات دقيقة ولا غير دقيقة لأحكم بها قائلا: زاد الخبث وكثر ووجدنا بين ظهرانينا من يكره غيره لفشله أن يحب نفسه إلى آخره من الأحكام التي يصدرها البعض فيدينون بها ذواتهم قبل أن يدينوا غيرهم، ومن الأفضل لنا كبشر أن نحسن الظن بالناس وأن نفترض الخير في كل من نتعامل معهم إلى أن تثبت أفعالهم عكس ذلك.
فتخيل نفسك- لا قدر الله- وأنت منذ أن تصحو من نومك حتى تعود للنوم من جديد تقابل بشرًا يصورك لهم عقلك الباطن على أنهم شياطين، يريدون بك الشر ويخططون للإيقاع بك والإجهاز عليك إن هم تمكنوا منك، وتصور نفسك وأنت لا يسيطر على تفكيرك إلا مصطلحات الكراهية من عينة: الغل، العنف، الإيذاء النفسي، الحقد، الخيانة، سوء الظن.
وأفترض مثلًا أن الشيطان قد سيطر عليك بالكلية، وتمكن من توجيه فكرك، فلا مجال لديك للعفو ولا مساحة للحب في وجدانك، ولا متسع في قلبك لصفح جميل عن مخطئ في حقك.
الحمد لله أن خلقنا بشرًا وجعل قلوبنا تحتمل الضدين، فنحن لسنا ملائكة بسرائر نقية على طول الخط، وكذلك ليس البشر شياطين يضمرون الشر ويضعون العوائق لينزلق عدوهم إلى قاع جهنم، نحن نجمع الضدين ونتعايش مع النقيضين ولدينا القدرة على التكيف والتأقلم، ولا أقول التلون، ورغم كل ما سبق فمن المنطقي أن نسلم أن هناك بشرًا- عافانا الله وإياكم- هم ليسوا فقط شياطين، بل هم المردة منهم، قلوبهم سوداء وعقولهم بلهاء وألفاظهم نكراء وتصرفاتهم خبط عشواء، هم شياطين في صورة بشر اتسخت قلوبهم لدرجة السواد القاتم وانشغلت عقولهم بالكيد لغيرهم ومحاولة الإيقاع بهم في قاع جهنم، هم لا يعرفون من الألوان إلا أسودها ولا يتذوقون من الطعام إلا علقمًا إذا لم يجدوا من يتنمرون به أو يكيدون له كيدًا اتجهوا إلى ذواتهم فجلدوها.
ولكن دعك من كل هؤلاء حتى تمضي حياتك سوية نقية لا ينغصها حقد حاقد ولا كيد كائد ولا خبث شيطان، وتذكروا ما رواه عبدالله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- الذي نحيي ذكرى ميلاده الشريف هذه الأيام، إذ قال: (ألا أخبركم بمن يحرم على النَّار، وبمن تحرم النَّار عليه؟ على كلِّ هيِّن ليِّن قريب سهل)، وفي شرح الحديث الشريف أفاض العلماء ففسروا القريب بأنه القريب من النَّاس بمجالستهم في محافل الطَّاعة وملاطفتهم قدر الاستطَّاعة، أما السهل أي: فهو الذي يقضي حوائج الناس ويسهل أمورهم  في قضاء حوائجهم. ومعناه: أنه سمح القضاء سمح الاقتضاء سمح البيع سمح الشِّراء.. وهكذا حثنا الرسول الكريم على لين الجانب في معاملة الناس.
ورغم ما نقابله كل يوم من بشر أسودت قلوبهم وانعكس ذلك على طبائعهم وألفاظهم وسلوكياتهم، إلا أنه سبحانه لم ينزع عن البشرية إنسانيتها، فلولا كلمة طيبة ودون فعل خير وبغير وجه بشوش وإن افتقدنا القلب المتسامح لتحولت دنيانا إلى غابة، قد يقول متشائم إنها أصبحت كذلك أو تكاد، وهنا أقول له مصارحًا: بل راجع نفسك أنت، فهذه الرؤية تنم عن مشكلة حقيقية ليست في المجتمع الذي تنتقده بل فيك أنت، وتذكر قول الشاعر إيليا أبوماضي: كن جميلا ترى الوجود جميلًا.
أقول قولي هذا بعد أن لاحظت، هذا الأسبوع، تربصًا مجتمعيًا ببعض الكتاب أو أصحاب الرأي الذين يؤخذ قولهم بتفسيرات ليست فقط خاطئة، بل يتعمد المتربصون إساءة تفسيرها بما يخدم أغراضهم السياسية أو الأيديولوجية للإيقاع بخصوم أو لمكايدة نظام أو التشكيك في ولاء البعض أو حتى معتقداتهم، تلك التي لا يعرف حقيقتها إلا خالقهم، لكن خصومهم يعطون أنفسهم الحق الإلهي بالحكم على الآخرين ولم لا فهم- وكما يدعون- أصحاب الحقيقة المطلقة، فكونوا متسامحين ما وجدتم إلى ذلك سبيلًا، وقد قيل إن المأمون ظفر بعدو له وكاد أن يقتله. فاستأذنه الرجل بأن يسمعه أبياتا من الشعر قال فيها:
زَعَموا بأن البازَ علقَ مرة.. عصفورَ بر ساقَه المقدور
فتكلمَ العصفورُ تحتَ جناحِه.. والبازُ منقضٌ عليه يطير
ما بي لما يغني لمثلِكَ شبعة.. ولئن أكلتُ فإِنني لحقير
فتبسم البازُ المُدِلُّ بنفسِه.. كَرَما وأطلق ذلك العصفور
وتقول الرواية إن المأمون حين سمع هذه الأبيات من عدوه أطلق سراحه ومنحه العطايا ووصله.
يا سادة صفح جميل عمن أساء إليكم وحسن ظن بالناس ولين جانب وتواضع في غير مذلة واعتزاز في غير كبر، صفات تجعلك لين الجانب ممن استحقوا ما بشرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تحرم أجسادهم على النار ويا لها من بشرى ويا له من حسن خاتمة.