جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

وجوبية الاحتفال بالمولد النبوى

لم يمضِ النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى الرفيق الأعلى إلا قال: لم يبق من النبوة إلا المبشرات، ولما سألوه عن معناها قال إنها الرؤيا الصالحة.

والخلاصة أن النبوة بقيت ببقاء هذه الرؤيا المحددة، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، قد بيّن أن رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءًا من النبوة، كذلك وضح، ومختصون بالرؤيا بعده، إنها أربع: رؤيا صالحة «بمثابة البشرى الإلهية»، ورؤيا شيطانية «تحزينية يصير الإنسان بحصولها مغمومًا»، ورؤيا منذرة «ترفقية بالرائي للاستعداد لما قد يقع قبل وقوعه»، وأخيرًا رؤيا نفسية «من آثار ما يحدث المرء به نفسه».

نعيش، في هذه الأيام، أجواء الاحتفال بمولده، صلى الله عليه وسلم، وقد يظهر من حديث المبشرات أنه توخى أن يترك فينا من نبوته ما يذكرنا به بصورة سرمدية، وإن كنا لا ننساه بتة، فالرؤيا ما يراه البشر في مناماتهم، والجمع رؤى، وأول ما بدئ به النبي نفسه من الوحي كان الرؤيا الصادقة (الصدق يوافق معنى الصلاح في صميم اللغة) والرؤيا الصادقة «الصالحة» هي أول طريق لكشف الغيب "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق"، سورة الفتح- الآية 27- القرآن الكريم.

يقول لكم الطيبون إن الاحتفال بمولده حلال، ما دام الاحتفال نقيًا وبريئًا، وما دامت شمائله الكريمة حاضرة بينكم وبادية فيكم، وما دمتم تعرفونه ولا تجهلونه، وتتميزون بصفاته النبيلة فلا تتوهون في أيكات الأمم وأيديكم في يده!

ويقول المتشددون في الدين إن الاحتفال بمولده حرام، وإن الحلوى التي تبيعونها وتشترونها وتأكلونها على شرفه، وقد صنعتم منها تماثيل جذابة، ما هي إلا الأصنام التي صنعها الكافرون، وقاوم هو وجودها ونهى عن عبادتها، فطمسها ما يلزمكم وليس تمجيدها، هكذا يتكلمون، ثم يطلون كلامهم الغبي الفارغ بطلاء كأنه الحقيقة وما هو بالحقيقة؛ فيقولون إن عصارة الاحتفال به صلاة عليه واتباع لسنته، كأنهم ينكرون صلاتكم المستمرة على مقامه الأسمى وحرصكم الدائم على إحياء جوهر ما نثره من الدرر العظيمة.

وأقول، بيسر وبساطة، إنه لو لم يرد أن نحتفل بمولده لكتم حديث المبشرات (الحديث صحيح بالمناسبة)؛ ففي ذكر الحديث، بلفظيه، من رواية عائشة ومن  رواية أبي هريرة، ما ينفي ذهاب النبوة ويشير، بقوة، إلى بقائها ببقاء جزء منها هو الأخبار السارة، وهذا معنى المبشرات، وهو معنى تفاؤلي صاخب؛ وعلى هذا كان لزاما على الأمة أن تحتفل بالنبي الذي أفادها بمكوث نبوته فيها أبديا، ضمن النبوات، أي أنبأها بدوام بركته في أراضيها، وكان يمكن ألا يفعل، لو كان لا يريد لها الانتباه لخلود خيره ونعمته بقرونها وسنينها، لكنه يريد انتباهها الذي معه ترسي أمرًا كالاحتفال الدوري المديد الذي يجدد الرسالة الروحية الخاتمة المنجية.. أي كأن النبي، صلى الله عليه وسلم، أيد احتفالها الجميل بمولده، من الأصل، بحروفه التلميحية اللطيفة الجامعة!