جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«للمحبين والأوغاد وقطاع الطرق» لـ«محمد البُرمى».. ألف خطوة من أجل البقاء

«للمحبين والأوغاد وقطاع الطرق»، يبدو عنوان المجموعة القصصية الأولى لمحمد البرمى كما لو كان فى ذاته إهداءً، وفى الحقيقة فإنه ليس بعيدًا عن ذلك، إذ تبدو قصص المجموعة الأربع والعشرون، فى مجملها، إهداءً كبيرًا لتلك الأنماط الثلاثة من البشر.

فى المجموعة الصادرة مؤخرًا عن سلسلة «إبداعات» بالهيئة العامة لقصور الثقافة، يكتب محمد البرمى القصة كأنها واقعة، كأنها تدوين لمشهد حدث بالفعل.. نستطيع أن نتلمس فى أغلب نصوص المجموعة شخصيةً أقرب ما تكون للمؤلف نفسه، وفى خط سير يكاد يطابق خط سير خطواته اليومية الألف، «من الجريدة إلى شارع قصر العينى، ومنه إلى ميدان التحرير لبداية الرحلة».. قلب القاهرة هو المسرح الثابت للنصوص كلها، و«أماكن العابرين» هى بيوت هذه المجموعة: المقاهى والبارات والمصاعد والأرصفة.. يلتقط البطل شخوصه من لقاءات عابرة، جميع شخصيات هذه المجموعة هم أبناء الصدفة، صدفة الظهور والرحيل، ممن يصعب أن يقابلهم الشخص نفسه مرتين، وفى عاديتهم المفرطة، فى هامشيتهم حيث يتحركون كظلال باهتة، كغير مرئيين، على هامش المدينة الكبرى، فإن كلًا منهم يقدم وجهه الاستثنائى، وربما الخارق الذى لا يُصدَّق، وحكايته الفارقة التى لا ينتبه لها أحد. 

تقنيًا، تسود المجموعة لغةٌ أقرب للمحايدة، حتى وهى تُقارب خسارات الفقد من الحب للموت، من الضياع فى الواقع حتى الوقوف على حافة الانتحار.. عبارات تلغرافية، مع لغة راصدة للخارج، بالكاد تصف المشهد تاركةً أعماقه تعبر عن نفسها، فى امتداد للغة ساردين مثل همنجواى وإبراهيم أصلان ومحمد البساطى ومحمود الوردانى.. لا مجازات، لا عبارات طويلة إلا فيما ندر، لا ولع بتحليل الشخصيات من الداخل أو الغور فى أفكارها وعالمها الداخلى، وثمة تظاهر باللامبالاة بحيث لا تمارس اللغة أى تأثير عاطفى خاص.. الظاهر، فى هذه المجموعة هو ما يكشف الباطن، وهذا هو رهان «البرمى» فى تقديرى. 

فى أكثر من قصة تحضر لعبة مثيرة، إذ يبدأ النص بالبطل بضمير الغائب، قبل أن يتحول إلى ضمير المتكلم متحدثًا عن نفسه، ربما أكدت هذه التقنية انقسام البطل بين «أنا» و«آخر»، بحيث يستطيع طوال الوقت أن يرى نفسه عبر عين خارجية، قبل أن يعود ليقدم نفسه باعتباره «أنا». 

التسكع أيضًا ثيمة رئيسية، والتسكع سمة الوحيدين، فلا شخص يتسكع إلا لو كان ابنًا للعزلة.. نصوص التسكع تيار كبير فى الأدب، وجدت لنفسها مكانًا فيما يسمى أدب «البيكاريسك» الذى تمثل «دون كيشوت» قمة نماذجه، ولحسن الحظ فهذه الشخصية حاضرة بوضوح عنوانًا وأفقًا لإحدى أطول قصص المجموعة. 

وبقدر ما يلد التسكع الرصد والمراقبة، فإنه أيضًا يلد أحلام اليقظة، وأغلب قصص «للمحبين والأوغاد وقطاع الطرق» تتحرك فى هذه المسافة الغائمة بين الاثنين.. الأشباح هنا متجسدة، حد أن «الخوف» يمكن أن يتحوَّل من معنى مجرد إلى شخصية تتحرك مع السارد، يخشى فقدانها.. يمكن لامرأة من شمع أن تسرق السارد مدعيةً بنوَّته لها، يمكن لرفاق مقهى أن يتبخروا، لتنتهى محاولاته لرسم شاب وفتاة فى قصة حب، برسم نفسه خلف زنزانة، تنتقل فورًا من ذهنه للواقع ليصبح سجينًا خلف قضبانها.. يمكن لعجوز يحمل تمثالًا أن يخبر البطل رويدًا بأنه هو نفسه حين يشيخ، ليصبح «التناسخ» أمرًا قابلًا للتحقق فى مدينة تكفر بالمعجزات.. ويمكن للنوم الغاضب أن يخلق قرينًا غير مرئى، يترك فى النائم علامات زرقاء لدى استيقاظه، مثلما يمكن لموت أمٍ أن يورِّث شبحًا لا مثيل له، «شبحًا ميكانيكيًًا» يتخذ القرارات الحاسمة عوضًا عن الذات الإنسانية. 

من ذروة الواقع تتحوّل نصوص البُرمى، بسلاسة، دون مقدمات كثيرة أو تعقيد إلى ذروة الوهم، وهى إذ تنطلق فى كثير من الأحيان من الممكن اليومى، فإنها تنتهى بوقوع المستحيل الميتافيزيقى. 

«نحن المشتتون فى المدن، الناجون دائمًا، لا لشىء إلا لأن الحياة لم تنته منا بعد.. لا نزال مسليين على ما يبدو، وهى أنانية للحد الذى قد تمنحنا فيه فرصًا كثيرةً للحياة، وفرصًا أقل لضحكة متقطعة».. ربما يصلح هذا المقطع، مع مقاطع كثيرة، أن يوجز شيئًا عن مجموعة جميلة لا تقبل التلخيص، فـ«للمحبين والأوغاد وقطاع الطرق» ترصد بلا هوادة ضياع فرد فى واقع يصر على إذابته، ويصر هو، بالمقابل، أن يواجهه، ولو بتحويله إلى حلم يقظة فى واقع ينبذ الحلم.