جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

سينما التمويل الأجنبى

هناك دائمًا من يسعى إلى العالمية فى الأدب والسينما، حتى ولو على حساب القيم الفنية والوطنية، وهذا السعى يجعل الواحد منهم يتفنن فى تقديم منتج يرسّخ للصورة التى رسمها الغرب لمجتمعاتنا، الغرب لا يريد أن يراك على حقيقتك، ولا يريدك أن تكون ندًا له فى مجال الفنون، حفاوتهم بك تشترط أن تعرى أهلك، وأنت تعلى من شأن النقائص، تشترط أن تحتفى بالفقر وقمع المرأة وتجنى الدولة على مواطنيها.

الغرب يريد أن يراك مترهلا وجاهلًا وغليظًا ومنعزلًا وغير قادر على اللحاق بقطار التحضر الذى حدد مساره، هذا الغرب، بمؤسساته وأمواله وإعلامه ومهرجاناته، يدعم كل ما يفيد تصوراته عنا، لكى يضغط على صانعى القرار هنا، ولكى يوسع من طموح أجيال جديدة مرتبكة وقليلة الثقافة ولا توجد عندها ثقة فى المستقبل، حين يفوز فيلم بجائزة عالمية كبيرة، أو تترجم رواية حتى لو كان كاتبها متوسط الموهبة، ويهتم بها أصحاب الثقافات الأخرى، نفرح لا شك، ونتمنى أن يكون العمل محل الحفاوة يعبر بصدق عنا وعن طموحاتنا الفنية وعن وجهة نظرنا تجاه الأسئلة التى تبحث البشرية لها عن إجابات، وفى معظم المرات يخيب ظننا، فمثلًا حين فاز فيلم «ريش» بجائزة النقاد فى مهرجان «كان» السينمائى هذا العام كنت فى غاية السعادة، لأن وجهًا جديدًا انضم إلى كبار مخرجينا، ونجح فى قنص جائزة يحلم بها صنّاع الأفلام فى العالم كله، وتمنيت أن يكون الفيلم حقيقيًا معبرًا عن أشواق السينما المصرية العريقة، وصادقًا فى نقل صورة أمينة عن عذابات البشر أو أفراحهم أو طموحهم أو غضبهم، ولكن بعد أن شاهدت الفيلم فى مهرجان «الجونة» الأحد الماضى أُصبت بخيبة أمل لا حدود لها، ليس فقط بسبب الكذب وعدم احترام عقل المشاهد والمبالغة فى تسفيه وتحقير الفقراء، ولكن بسبب إصرار مانحى المجد على تشويه مجتمعنا، المخرج عمر الزهيرى اختار موضوعًا يبدو طريفًا وقمة فى الفانتازيا، عامل فى مصنع لا يشبه المصانع، ينشد البهجة ويحاول إسعاد أطفاله الثلاثة، يعيش فى بيئة غير نظيفة وسط أناس غير نظيفين، هذا الأب يتحول إلى دجاجة على يد ساحر فى مناسبة منزلية، إلى هنا لا توجد مشكلة، اختفى الأب وانحرفت الزوجة البائسة بعدما تخلت إدارة المصنع عن الأسرة لأنها لم تثبت وفاته، واعتبرته متغيبًا عن العمل، وقبلت عمل ابنه وهو طفل لم يتجاوز التسع سنوات، الأداء البيروقراطى لهذه الإدارة يشير إلى أن المصنع الذى لا نعرف ماذا ينتج تملكه الدولة، حتى عندما تذهب الزوجة للإبلاغ عن اختفاء زوجها نجد أنفسنا فى قسم بوليس لا يشبه أقسام البوليس، وكأنما فى بلد خارج التاريخ، المبالغة فى تصوير البؤس وتردى الأوضاع تؤكد أن المخرج القادم من عالم الإعلانات يتحدث عن عالم مستعار أعد ديكوره ونصبت الكاميرات لتصوير منتج لا علاقة له بالمصريين، ولكنه يسعد الجهات المانحة التى أنفقت الملايين لكى يظهر فقراء مصر كأنهم خارج الزمن، وأنهم مستلبون وخانعون وغير قادرين على مقاومة الخرافات، لم يكن فى ذهنى الحديث عن عمل ضعيف فنيًا ومترهل، لأننى شاهدت فى المهرجان أفلامًا عظيمة تعبر عن ثقافات متنوعة، وكنت أتمنى البدء بها، ولكن الصدمة التى أحدثها الفيلم العالمى «ريش» جعلتنى مضطرًا إلى التنبيه إلى خطورة النتائج التى تترتب على فوز فيلم ركيك بجائزة عالمية كبرى على صناعة السينما فى مصر، لأن الجهات المانحة ستفتح شهية بعض الموهوبين على تقديم أعمال مشابهة ترسخ للصورة الذهنية التى رسمها الغرب المتغطرس لنا، أنت أمام عمل يفتقد إلى الروح العطوفة لصناع الأفلام الكبار، عمل لم يعتمد مخرجه على ممثلين محترفين، ولم يحسن اختيار الموسيقى، فيلم لا يعرف الأشخاص الذين يحكى حكايتهم، هو يسىء إليهم ويصورهم كبلهاء وسذج، والمدهش بالنسبة لى التواطؤ النقدى مع هذه النماذج، وأيضًا محاولة الإعلاء من شأن هذه الأفلام الشائهة إرضاء للكفيل الأوروبى الذى يريد أن يشاهد أسوأ ما فينا، الفيلم يتحدث عن أشخاص يريد أن «يفرّج» الخواجة عليهم وعلى تخلفهم وعلى ضيق أفقهم، مهرجان «الجونة» هذا العام جاء بأفلام روائية وقصيرة مهمة جدًا، وكان من الصعب تجاهل فيلم مصرى حصل على جائزة النقاد فى «كان»، ولكن بعد مشاهدته ومقارنته بالأفلام المعروضة شعرت بغضب حقيقى، لأننا صنعنا سينما عظيمة ونستطيع أن نصنع سينما أعظم تليق بنا، بعيدًا عن وصفة التمويل الأجنبى.