جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الصدمات الكبرى.. كيف وصلنا إلى الأزمة؟

 

بدأت إرهاصات أزمة اقتصادية منذ عام ٢٠١٨ عندما تم الإعلان رسميًا عن صراع تجارى محتدم بين الصين وأمريكا وحدوث ما أطلق عليه «الحرب التجارية»، التى تعتبر نتيجة لحظة معينة فى تطور الرأسمالية العالمية، وهى تدويل رأس المال العالمى، أو التراكم العالمى، وهذا التراكم تنشأ عنه باستمرار ظواهر جديدة تخص الاقتصاد العالمى، الولايات المتحدة الأمريكية فرضت فى حربها التجارية مع الصين قيودًا حمائية، وذلك كرد فعل لمزاحمة المنتجات الصينية، وكانت حجتها فى ذلك حماية الأمن القومى ومعالجة الاختلالات الداخلية، وهو ما وضع التجارة الدولية أمام قيود حمائية جديدة أثرت على دول العالم، ومنها الدول العربية بالطبع، فنحن لسنا بمنأى عن أى حدث عالمى، لأن فرض رسوم جمركية على سلع صينية وأمريكية سيؤدى إلى ارتفاع أسعارها بمقدار الضريبة المضافة، وبالتالى تقع هذه الزيادة على المستهلك، فربما تكون السلعة بها مواد من الصين ومجمعة فى الولايات المتحدة الأمريكية ومبيعة فى مصر أو تونس مثلًا، وهو ما يعنى أننا لسنا بعيدين عن التأثر بهذه الحرب، ولكن بالطبع تختلف درجة التأثير وفق عوامل عدة؛ من أبرزها قوة الاقتصاد وهشاشته، ومن ثم قابلية انكشافه أو امتصاصه تأثير هذه الحروب التجارية بين القوى الاقتصادية العملاقة. 

بالطبع تراجعت القدرة التنافسية للولايات المتحدة الأمريكية، وهو أمر ناتج عن فرض رسوم جمركية على وارداتها، كما حدث تراجع فى صادراتها، بنسبة بين ١١٪ و١٢٪. وقد تأثرت اقتصادات دول أخرى متقدمة تشارك فى هذه النزاعات التجارية، ولكن بشكل أقل بكثير من تأثر الدول النامية، وهو ما أحدث تراجعًا فى صادراتها للولايات المتحدة بنسبة تتراوح بين ٥٪ و١٢٪. هذا كله ألقى بظلاله على الاقتصاد العالمى وتراجع معدل الناتج المحلى الإجمالى العالمى تقريبًا بنسبة ٧٥٪، وانكمشت حركة التجارة وتغيرت معادلتها. 

لم ينته العالم، حتى الآن، من الحرب التجارية التى يتوقع لها أن تستمر لفترة عبر مجموعة من الآليات المختلفة، فالتنافس بين الصين وأمريكا فى ذروته، حتى تعرّض الاقتصاد العالمى لصدمة أخرى وهى أزمة «كوفيد- ١٩» التى بدأت من الصين، شهد فيها الاقتصاد غلقًا على المستويين الجزئى والكلى، سواء على المستوى المؤسسى أو على مستوى الدول، وكنتيجة طبيعية لذلك تعرقل الإنتاج وسلاسل الإمداد، وحركات التنقل للبضائع البرية والبحرية، وأضعف أيضًا من الطلب العالمى، وأصاب بعض القطاعات الحيوية بخسائر كبيرة كالقطاع المالى، والطيران، والنقل، والسياحة. كل ذلك أدى إلى انكماش فى الاقتصاد العالمى بنسبة ٤.٣٪ عام ٢٠٢٠، وكان تقريبًا حجم الدول ذات المعدلات السالبة ٧٨٪ من حجم الاقتصاد العالمى بقيمة ٦٧ تريليون دولار تقرييًا. فاقمت أزمة كورونا ما يواجهه العالم، الآن، من أزمات للديون وأزمات الطاقة والتضخم. فعندما بدأ العالم يتجه إلى خطط للتعافى، وفى مقدمته الاقتصادان الأمريكى والصينى، ارتفعت أسعار الطاقة بشكل كبير لأكثر من سبب، بالتأكيد على رأس هذه الأسباب محاولات إنعاش الاقتصاد العالمى الذى يتطلب التمويل والطاقة بشكل كبير، وهو بالفعل ما أسهم فى عودة الطلب بشكل كبير على الخدمات والسلع الأولية، وأدى إلى ارتفاع مدخلات الإنتاج على مستوى العالم، وارتفاع تكاليف الشحن، وهذا ما انعكس بالفعل على زيادة أسعار المنتجات عالميًا، ونتجت عنه موجة تضخمية ضخمة تواجه العالم أجمع. 

من ناحية أخرى حدث تأثير مضاد فى حركة التجارة العالمية فى إطار محاولات التعافى، فمع ارتفاع أسعار الطاقة بهذا الشكل الكبير، التى وصلت خلال شهر سبتمبر إلى ١١٪، وكانت مكونات أسعار الطاقة للبترول، والغاز، والفحم، ٥.٧٪، ٣٨.٧٪، ٩.٥٪ على التوالى، هذه الزيادات الكبيرة، التى قد تزداد الفترة المقبلة، ستحدث زيادة أخرى فى تكاليف الإنتاج والشحن عما أشرت إليها، وبذلك يصبح المستهلكون عاجزين عن الشراء فينخفض الطلب، وهو ما قد يدفع بعض المنتجين إلى تخفيض حجم إنتاجهم، أو اللجوء إلى مدخلات رديئة فى عملية الإنتاج. هذه التطورات ستدخل العالم فى حلقة من التضحم الركودى الضخم، الذى ربما يستمر معنا لفترة ليست بقصيرة؛ لاستمرار أزمة الطاقة، ولا سيما فى ظل حاجة الصين والاتحاد الأوروبى إلى الطاقة مع دخول فصل الشتاء، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تغيرات المناخ الجديدة تجعل هناك طلبًا متزايدًا على الطاقة. 

أسهم فى تفاقم أزمة الطاقة أنه منذ أواخر ديسمبر الماضى، عندما بدأ بعض الدول الآسيوية، لا سيما الصين، زيادة حجم وارداتها من الغاز الطبيعى، وذلك لحاجة الصين إلى الطاقة فى إطار محاولاتها للخروج من أزمة كورونا الاقتصادية، والسبب الثانى هو أن فصل الشتاء كان أكثر برودة عكس السنوات الماضية، وهذا ما ترجم إلى دفع الصين ٢١ مليار دولار، خلال النصف الأول من ٢٠٢١، لاستيراد ٦٠ مليون طن من الغاز الطبيعى، بزيادة ٢٤٪ بالمقارنة بنفس الفترة ٢٠٢٠، مما جعل شحنات الغاز تتجه إلى آسيا نتيجة زيادة حجم الطلب الآسيوى، خاصة من دول الصين واليابان وتايوان وكوريا الجنوبية التى تحتاجه أيضًا فى عمليات التبريد، الأمر الذى أدى إلى زيادة سعره لأكثر من الضعف، وفى نفس الوقت لا تتجه شحنات الغاز إلى أوروبا، حيث كانت تمتلك ٩٥٪ من مخزون الغاز، وهو ما جعلها ليست بحاجة إلى استيراد المزيد من الغاز. ولكن فى فصل الشتاء الماضى سحب الأوروبيون هذا الاحتياطى، ومن ثم بدأ الطلب على الغاز يشهد تزايدًا من قبل أوروبا، وأيضًا أمريكا اللاتينية ازداد طلبها على الغاز الطبيعى على غير المعتاد، فهى تعتمد على توليد الكهرباء من خلال الطاقة الكهرومائية، ولكن بسبب موجات الجفاف التى تعرضت لها هذه البلاد، ارتفعت حاجاتها من موارد الطاقة، لذا هناك بوجه عام موجات مرتفعة من احتياجات الطاقة. 

دائمًا ما يقابل جانب الطلب، جانب العرض. تعد أمريكا أكبر دولة منتجة للغاز، وعلى الرغم من ذلك شهدت أمريكا فى النصف الأول من ٢٠٢١ تراجعًا بنسبة تزيد على ٧٪ مقارنة بعام ٢٠٢٠، وكان هذا التراجع الكبير نتيجة انخفاض درجات الحرارة التى أدت إلى تجمد خطوط آبار الغاز الطبيعى، وكذلك أيضًا تراجع مستوى روسيا من الإنتاج، التى تعد ثانى أكبر مصدر للغاز. هذه الأزمة أدت إلى ارتفاع أسعار الكهرباء فى كثير من دول الاتحاد الأوروبى كبريطانيا وإيطاليا وألمانيا، وفى أمريكيا اللاتينية أيضًا بعض الدول كالمكسيك والبرازيل رفعت من أسعار الكهرباء لديها. هناك بالفعل دول مهددة بإغلاق اقتصادها من جراء هذا الارتفاع الذى سوف تتعرض له، والتى لا تستطيع تحمله بأى شكل من الأشكال كـ«لبنان، وباكستان» على سبيل المثال.

فهذا الطلب المتزايد على الطاقة لا يستطيع كل الدول القيام بشرائه، لذا بعض الدول النامية ستتعرض لصدمة كبيرة وستتراجع إمدادات الكهرباء فيها وسترتفع أسعارها إلى أضعاف ما كانت عليه، وفى المقابل الدول مرتفعة الدخول هى التى ستستحوذ على النسبة الأكبر من واردات الغاز، وعلى رأس هذه الدول الصين، فالصين الآن تعانى من أزمة طاقة، وهو ما دفعها إلى طلب تخفيض حجم منتجات كثيفة الطاقة كالألومنيوم، والصلب وغيرهما من المنتجات، وهو بالطبع سيؤثر على حركة الصادرات والواردات، وربما تواجه بعض الدول أزمات فى الحصول على المنتجات أو المواد اللازمة لعمليات الإنتاج. كل هذا حدث ولم يدخل العالم فصل الشتاء بعد، بل يطرق الأبواب فقط، لذا فالعالم مقبل على أزمة أكبر خلال فصل الشتاء، التى ستلاحق الجميع، سواء ممن يملكون الغاز أو لا يملكون. فمن يملكون الغاز، ستذهب عوائد تصديرهم فى شراء المنتجات كثيفة الطاقة كالألومنيوم والصلب، والنسيج. ما قد ينهى هذه الأزمة أن تقوم، تحديدًا، دولتا أمريكا وروسيا بزيادة إنتاج الغاز، ولكن روسيا لا تريد أن تفعل ذلك من أجل الضغط على أوروبا لاستكمال طريق «Nord Stream 2»، أما أمريكا فقد وضعت سقفًا لحجم الإنتاج كى تؤمن احتياجاتها فى ظل هذه الأزمة. 

أنتقل الآن إلى أزمة أخرى تواجه العالم وهى أزمة الديون الأمريكية والصينية. حجم الدين الصينى أقل من حجم الدين الأمريكى، وهو ما يجعلها تمتص الأزمة بيسر على المديين القصير والمتوسط بشكل أكبر من أمريكا، باستثناء أزمة الرهن العقارى التى تحاول منع تفاقمها من خلال ضخ السيولة، وأعتقد أن هذا الضخ سيستمر لفترة لاحتواء أزمة ديون هذه الشركات، وعلى رأسها أزمة «إيفرجراند». أما فى الولايات المتحدة الأمريكية فيعد الأمر أكثر صعوبة، فحجم الدين الأمريكى يزداد بشكل متسارع، حتى إنه وصل إلى ما يزيد على ٢٨ تريليون دولار، أى ما يزيد على حجم الاقتصاد الأمريكى بـ٨ تريليونات دولار تقريبًا، الجزء الأكبر من الديون كان نتيجة قرارات ترامب بتخفيض الضريبة، وزيادة الإنفاق من أجل مواجهة تداعيات كورونا والحرب التجارية. 

تمثل قرارات البنك الاحتياطى الفيدرالى، الفترة المقبلة، المؤشر إلى أين سوف يذهب الأمر، وأتصور أن الفيدرالى سيتخذ قرارًا برفع سعر الفائدة، لجذب استثمارات أجنبية فى أدوات الدين، فى حال زوال الخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين، وتمت الموافقة على رفع سقف الدين العام، وهذا ما يتوقع حدوثه فى يوم ١٨ أكتوبر، سيوافق الجمهوريون على رفع سقف الدين حتى لا تعطى فرصة للصين لأخذ المكانة الأولى فى العالم. وبالرغم من أن هذا ربما ما يحدث، فإن عددًا كبيرًا من الشركات والبنوك الأمريكية سيواجه بعض الأزمات، خاصة أن سياسة التأثير الكمى، وقدرة الفيدرالى على طباعة النقود وضخها فى السوق ستتوقف بشكل كبير على المدى القصير. أما فى حال استمرار الجمهوريين على رفض رفع سقف الدين، سيجعل أمريكا لأول مرة فى تاريخها تكون غير قادرة على سداد الدين، سواء الداخلى أو الخارجى، وهو ما يضع الاقتصاد الأمريكى والعالمى فى مأزق كبير، وتراجع للجدارة الائتمانية، وفقدان الثقة فى النظام المالى الأمريكى، وقد يصل الأمر إلى تعرض الدولار للخطر، وهو ما يجعل المستثمرين يتخلصون منه والاتجاه نحو الذهب والاستثمار الآمن، وتترتب على كل ذلك عواقب كبيرة فى الأسواق المالية العالمية التى ستقود فى النهاية إلى أزمة مالية عالمية أشد من أزمة «٢٠٠٨». 

فى النهاية يمكن القول إنه بوجه عام ستتحدد درجة تأثر الدول بتلك الأزمات، وفقًا لحجم مديونياتها، فكلما زاد حجم الدين تراجعت القدرة على التصدى، خاصة لمن تجاوزت حجم مديونياتها أكثر من ٦٠٪ دون وضع آليات تحد من تأثيراتها، لا سيما أن هذه الأزمات ستلحق أثرًا سلبيًا على موازين المدفوعات، وتحديدًا على مستوى الدول النامية، وسيتوقف التأثر أيضًا على مدى درجة اعتماد كل دولة على الخارج، وربما تجبر هذه التحولات العالمية بعض الدول على الاتجاه إلى الاعتماد على الإنتاج المحلى، فى ظل احتمالية توقف بعض المصانع عن الإنتاج، لعدم قدرتها على الصمود والمنافسة من جراء أزمة الطاقة، وربما أيضًا تتراجع صناعات الحديد والصلب، وهو ما يعمق من الأزمة العقارية فى الصين. 

وإذا ركزنا على تأثر مصر بشكل خاص، سنجد بعض الآثار السلبية وبعض الآثار الإيجابية. مصر ليست بعيدة عن التأثر بالموجة التضخمية وأزمة الطاقة، وهذا ما نلحظه بالفعل فى انتقال التضخم إلينا، وحدوث زيادة فى أسعار بعض المواد الغذائية، ومتوقع أن يستمر هذا الارتفاع لفترة، فمصر تستورد من الخارج ٦٠٪ من مستلزماتها، منها ٤٠٪ من الصين. ومن جهة أخرى ربما يحدث ذلك انتعاشًا فى الإنتاج المحلى، ويقلل من اعتمادنا على الاستيراد لبعض المنتجات. وهناك جانب آخر يمكن النظر إليه هو أن مصر كانت تمتلك رؤية استباقية لما يحدث، حيث قامت بتخفيض سعر الفائدة، وتحويل القروض قصيرة الأجل إلى قروض طويلة الأجل، وهو ما أعطاها فرصة أن يكون السداد على سنوات أطول، حتى تتجنب حدوث تعثرات فى السداد، لا سيما فى احتمالية تراجع التدفقات النقدية الأجنبية، وهو ما سوف يجعل تأثر ميزان المدفوعات ليس كبيرًا كحال بعض الدول الأخرى. 

فى ظل تغيرات أسعار الطاقة بهذا الشكل الكبير، تكمن فرصة لمصر بأن يصبح إنتاجها من الغاز منافسًا فى السوق العالمية، فتحولها منذ عام ٢٠١٨ من دولة مستوردة للغاز إلى دولة مصدرة، يجعلها تستفيد من هذه الوضعية، وتعظم من حجم صادراتها بشكل عام، وإلى الاتحاد الأوروبى بشكل خاص، لا سيما فى محدودية واردات روسيا إلى أوروبا من الغاز الطبيعى، سواء كان التصدير فى شكل الغاز كخام، أو من خلال مصنعات الغاز، أو من خلال الصناعات المرتبطة بالغاز، وهو ما يسهم فى الحصول على تدفقات نقدية أجنبية، فى ظل توقع تراجع التدفقات عالميًا. ومن ناحية أخرى سيشجع ارتفاع أسعار الغاز إلى اتجاه كبرى الشركات للاستثمار فى عمليات التنقيب والبحث والاكتشاف فى مصر.