جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

فى مديح مبدعى السبعينيات «3»

كيف غيَّر عدوية وهانى شنودة الغناء في السبعينيات؟

فى ضوء سياسات تمكين الشباب، وظهور أجيال أحدث على ساحة العمل العام فى مصر، تبدو الحاجة مهمة للتأريخ للأجيال الأقدم فى مجالات الإبداع المختلفة، فى هذا الإطار تنشر الدستور ثلاث حلقات للناقد الزميل عيد عبدالحليم، يؤرخ فيها لمبدعى جيل السبعينيات فى مجالات الإبداع المختلفة سواء الشعر، أو الرواية، أو السينما، وهى محاولة جادة لرسم الملامح الإبداعية لهذا الجيل، والتأريخ لأهم إنتاجاته وملامحه والعلاقات بين أبنائه، وستتبع هذه الدراسة دراسات أخرى تُلقى فيها «الدستور» الضوء على عطاء أجيال الثمانينيات والتسعينيات فى الإبداع المصرى.

 

من أهم الظواهر الفنية التى ميزت جيل السبعينيات فى الموسيقى ظهور عدد من الفرق الغنائية التى قدمت أشكالًا مغايرة للنمط الموسيقى السائد وقتها، والذى كان منقسمًا إلى تيارين رئيسيين، التيار الكلاسيكى والذى تجسد فى الموسيقى التقليدية الرصينة ويمثلها جيل الرواد الذى ظل متسيدًا المشهد الغنائى حتى نهاية السبعينيات بنماذجه الهامة، أمثال أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة ووردة وغيرهم، والتيار الآخر ما سمى «الغناء الشعبى»، والذى انتشر بشكل لافت واستحوذ على قاعدة جماهيرية عريضة، خاصة الفنان «أحمد عدوية» الذى يعد النموذج الأبرز فى تلك الفترة، لدرجة أن الموسيقار محمد عبدالوهاب لحن له بعض أغانيه، وباعت الشرائط الغنائية مئات الآلاف من النسخ، وأصبح هذا النوع من الغناء الذى يقوم على الخفة والبساطة والفكاهة فى أحيان يقف فى تنافس حقيقى مع الغناء ذى الطابع الرصين.

ومن هنا جاء ميلاد «الفرق الغنائية» ليقدم نموذجًا ثالثًا يختلف كل الاختلاف عن النموذجين السابقين.

أولًا من حيث التنظيم الفنى، حيث اعتمدت هذه الفرق على «الإطار الجماعى» من خلال ورش عمل فنية جماعية فى الكلمة واللحن والأداء، وإن وجدت قيادة فنية لها رؤية خاصة حركت هذه الفرق من خلال خبرة سابقة فى التلحين والغناء الفردى.

كذلك جاءت هذه «الفرق» بلغة موسيقية مختلفة لم تعهدها الأذن المصرية والعربية، حيث مزجت بين الآلات العربية الرضية كالعود والقانون والناى والكمان والآلات الغربية كالبيانو والأورج وموسيقى الجاز أحيانًا، بالإضافة إلى معالجتها فى أغانيها قضايا اجتماعية معاصرة متخلية عن الشكل الرومانسى التقليدى للأغنية، فظهرت فرق مثل «فرقة المصريين» التى أسسها الموسيقار هانى شنودة عام ١٩٧٧ وتحديدًا فى ٨ ديسمبر من نفس العام، حيث صدر ألبومها الأول تحت عنوان «بحبك لا» عن شركة «صوت الحب» وقد تضمن الألبوم أغنية كانت بمثابة التعريف بالفرقة تحت عنوان «يوم ٨ ديسمبر» كلمات الشاعر الإذاعى عمر بطيشة وألحان محمد الشيخ وغناء ممدوح قاسم، ومع نجاحها الأول اجتذبت الفرقة أنظار كبار الشعراء والملحنين، فكتب لها الشاعر «صلاح جاهين» عددًا من أهم أغانيها، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر أغانى: الشوارع، حواديت، موسم الامتحانات، ولد وبنت، ماتحسبوش يا بنات إن الجواز راحة، ماشية السنيورة، ماما ستو، وغيرها. 

وعن تجربته مع فرقة المصريين يقول هانى شنودة: «كنت أول من استعمل العلم فى تلحين الأغنية وتوزيعها من خلال فرقة المصريين، حيث كان هناك فصل شديد بين الشرق والغرب فاستعملت الهارمونى والكونتر بوينت وقدمت البناء الصحيح للأغنية، وهو أن تكون مبنية على الهارمونى وليست مبنية على المونفونية أو أحادية الصوت، وكان هناك توزيع فى الأصوات ونجاح مبهر أسعد الناس».

وقد استمرت الفرقة فى تقديم أغانيها واسكتشاتها لأكثر من خمسة عشر عامًا، ثم انتهت التجربة ليبدأ هانى شنودة فى تأسيس فرقة أخرى حملت اسم «فرقة الأحلام»، بالتعاون مع شركة «صوت الفن» لمحسن جابر، كان أعضاؤها من الفنانين الشباب الباحثين عن فرصة لتقديم موهبتهم أمثال «نور قدرى» و«ياسمين جمال» و«طارق عماد».

وفى نهاية السبعينيات- أيضًا- ظهرت فرقة «النهار» والتى أسسها الفنان محمد نوح، والتى قدمت مجموعة من الأغانى المتميزة واعتمدت قوة اللحن والكلمة والأداء، خاصة مع وجود صوت «محمد نوح»، الذى يتميز بصوت ذى عرض مختلفة وقوية، ومن هذه الأغنيات ذات الطبيعة الدرامية «مدد.. مدد شيدى حيلك يا بلد» و«أدينى قلت» و«من صغر سنى» و«إحمينى»، وكانت الأغانى والألحان التى قدمها نوح مع الفرقة أحد الأسباب فى حصوله على جائزتى الدولة التشجيعية ثم التقديرية فى الفنون.

ومن الفرق التى تأسست فى تلك الفترة «فرقة الفور إم»، والتى أسسها الفنان عزت أبوعوف مع شقيقاته الأربع «منى، مها، منال، ميرفت»، أما فرقة الأصدقاء والتى تكونت من الموسيقار «عمار الشريعى» والمطربين «علاء عبدالخالق، منى عبدالغنى»، فقدمت مجموعة من الأغانى مثل «مع الأيام» و«الموضات» و«الحدود»، ثم التحقت بالفرقة المطربة «حنان». 

وتعد أغنية «الحدود» نموذجًا للأغنية الدرامية التى تحمل فى طياتها أبعادًا اجتماعية وفلسفية، فالأغنية تتحدث عن الهجرة والاغتراب بحثًا عن العمل، ومع ذلك يسكن بداخل المغتربين الحنين للوطن. 

تقول كلماتها:

وإحنا فايتين عالحدود 

مستمرين فى الصعود       

اختفى النيل الجميل من تحتنا

والمدن والريف وأول عمرنا

وابتدى شىء ينجرح جوا الوجود

بصة م الشباك ع البحر البعيد

وإحنا رايحين بالأمل عالم جديد

كنت فاكرة مصر إنى تعبت منك

اكتشفت إنى محال أستغنى عنك

حتى دوشة صوت جيرانى

والزحام وحشونى تانى.

كرم مطاوع وسعد أردش والعصفورى قاوموا انهيار المسرح

شهدت فترة السبعينيات ازدهار الفنون المختلفة سواء فى السينما أو المسرح أو الغناء، من خلال ظهور جيل موهوب عمل على تطوير أدواته الفنية، من خلال ثقافة موسوعية واطلاع على فنون العالم المختلفة، كذلك تأكيده على فكرة الهوية والعمل الجماعى، مع التأكيد على عنصر التجريب الفنى.

على اعتبار أن التجريب قفزة نوعية فى عالم الحداثة وما بعد الحداثة لإنتاج أنماط مغايرة من الفن فى ظل التطورات التقنية التى تشهد ما بين لحظة وأخرى طفرات هائلة، وبالتأكيد فإن فترة السبعينيات من القرن الماضى قد شهدت ظهور جيل مغاير فى المسرح المصرى، حاول خلق حالة مسرحية تختلف عما قدمه جيل الستينيات، وهو الجيل الذى قدم نموذجًا فريدًا فى تاريخ المسرح المصرى والعربى على السواء.

حيث برز ما يمكن أن نسميه «مسرح المخرجين»، حيث برزت أسماء هامة فى الإخراج المسرحى، درست الإخراج دراسة أكاديمية عميقة فى أوروبا أمثال سعد أردش وكرم مطاوع ونبيل الألفى وسمير العصفورى والسيد راضى وأحمد زكى وحمدى غيث وغيرهم، وهو الجيل الثانى بعد الرواد الأوائل جورج أبيض ويوسف وهبى وعبدالرحيم الزرقانى، وكان المخرج فى مسرح الستينيات هو المحرك الرئيسى للعرض، رغم وجود مؤلفين هم أبرز من قدمتهم الحياة الثقافية فى هذا المجال حتى وقتنا هذا، أمثال محمود دياب وألفريد فرج وسعدالدين وهبة وصلاح عبدالصبور ونعمان عاشور وميخائيل رومان ويوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوى.

وقد تميز هذا المسرح بتنوع روافده وتعددت أشكاله ما بين المسرح الواقعى والمسرح الشعرى، والمسرح العالمى الذى كان يعرض أهم النصوص الكلاسيكية من المسرح الأوروبى، بالإضافة إلى إنشاء مسرح الحبيب على يد الفنان الراحل سعد أردش والذى يقوم بتقديم «مسرح العبث» الذى كان شائعًا فى أوروبا فى ذلك الوقت من خلال أعمال «يوجين يونسكو» و«دورنمات»، بالإضافة إلى كلاسيكيات «إبسن» و«شكسبير» وغيرهم، ومع ذلك كان مخرجو ذلك الجيل يدركون تمامًا أهمية النص المعروض، ويقدرون دور المؤلف فى العملية المسرحية باعتباره الخطوة لنجاح أى عمل مسرحى، وهذا ما أكد عليه المخرج الراحل نبيل الألفى فى مقال له تحت عنوان «ذكريات إخراج.. إلى أصحاب الكهف»، حيث يقول: إننا نعتبر المسرحية كنص أدبى مكتوب بمثابة الجوهر أو المحور الذى ترتكز عليه حياة العرض المسرحى بأسرها، وإننا نتوجه إلى كل الذين يتطلعون بعين الأمل إلى مستقبل المسرح المصرى فنناشدهم أن يبحثوا معنا عن المؤلف المصرى، ويعملوا على تحقيق وجوده فى عالم الحياة المسرحية.

وأعتقد أن مرحلة «السبعينيات» فى المسرح المصرى قد تميزت بعنصرين هامين، أولهما: البحث فى الموروث الشعبى لتقديم فرجة مسرحية شعبية، تستفيد من الجذور العربية لفن المسرح بإحياء فنون كادت أن تندثر مع التطور الحضارى مثل خيال الظل والأراجوز والعرائس القفازية، والتى شكلت فى مراحل انتشارها ما أسماه د. على الراعى «مسرح الشعب»، وهذا المنحنى الذى اتجه إليه كتّاب المسرح فى هذا الجيل أمثال محمد أبوالعلا السلامونى ويسرى الجندى يعد امتدادًا لدعوة د. يوسف إدريس فى مقدمة مسرحيته «الفرافير» والتى أسماها «نحو مسرح عربى»، والتى أكد فيها على ضرورة العودة إلى المسرح السامر بما يحمله من معنى «جماعية الأداء»، وهو ما أسماه «بحالة التمسرح»، والتى تقوم على حد تعبيره على «التجمع»، فتلك الأشكال المسرحية كثيرة الحدوث فى حياتنا اليومية فى الأفراح والمآتم والمناسبات، فى الاحتفالات الكثيرة التى ابتكرها الجنس البشرى كحجة «أحيانًا مضحكة، مثل التجمع للاحتفال بطهور أحد الأولاد، أو الاحتفال بأعياد الحصاد والمناسبات الدينية». أكثر هذه السهرات اليومية فى البيوت بعد انتهاء اليوم والعمل، التجمعات التلقائية فى الأسواق وبعد انتهاء البيع والشراء، بل إن الشعوب ابتكرت أماكن ثابتة لتجمعات مستمرة يذهب إليها الفرد استجابة لغريزته الجماعية مثل القهاوى والحانات والنوادى.

حول تجربته يقول «السلامونى»: «لقد حاولت فى معظم ما كتبت من مسرحيات أن أستمد أصول تجاربى الدرامية من أعماق المأثورات الشعبية المصرية، واستلهام شكل اللعبة المسرحية من ظواهرنا المسرحية التى لم تتبلور فى شكل مسرحى كامل، وكان لدى الطبيعة التى تحولت ظواهرنا المسرحية البدائية إلى حقيقة مسرحية أو ابتكار جديد فى القالب المسرحى والبنية المسرحية خصوصًا فى النص المسرحى، وفى اعتقادى أن الشعور بالحرية هو الذى دفعنى للتحرر أثناء الكتابة دون شعور بالتعصب أو الانغلاق أو الوقوع فى أسر الذات».

وقد يكون لجوء هذا الجيل إلى غربلة الموروث الشعبى بحثًا عن هوية مسرحية، لمواجهة تداعيات هزيمة يونيو ١٩٦٧، والتى أحدثت شرخًا عميقًا فى الوعى الشعبى، وكان هذا الشرخ أعمق عند النخبة المثقفة.

وهذا ما لمسه المخرج عبدالرحمن الشافعى فى شهادة له حول تجربته المسرحية، حيث يقول: «لقد تراكمت لدىّ مفردات وأساليب وأماكن وأحاسيس وأفكار وخبرات فى الممارسة المسرحية، تناسلت وتوالدت عبر كل مسرحية وأخرى، لا تتكرر ولا تتشابه، وكل مسرحية تشكل بالنسبة لى خبرة خاصة فى طريق طويل لم أنجزه بعد، إننى أصبو إلى البحث فى شخصيات السير الشعبية عن موضوع أتخذه عن قصد ركيزة لبنية جديدة فى المسرح المصرى».

وفى هذا الإطار شكل الشافعى مع الكاتب يسرى الجندى ثنائيًا مسرحيًا قدما من خلاله مجموعة من العروض التى لاقت نجاحًا جماهيريًا، وقدمت فى أماكن مختلفة «فى وكالة الغورى وعلى خشبة مسرح السامر وفى مسرح الثقافة الجماهيرية»، ومنها مسرحية «على الزيبق» التى استمر عرضها عامًا كاملًا، وظلت تُعرض بمسرح السامر حتى انفجار معركة، ثم تلاها «سيرة بنى هلال» و«عاشق المداحين» وغيرها من الأعمال التى امتزج فيها التمثيل بفنون الغناء الشعبى والعزف الحى على الدفوف بدون زخرفة شكلية، وكانت مثل هذه العروض البداية الحقيقية لإنشاء مسرح السامر والذى اُفتتح عام ١٩٧١.

وبالإضافة إلى ذلك فقد وجد «المسرح الكوميدى» أرضًا خصبة لتقديم عروضه- وإن جاء كثير منها فى إطار المسرح التجارى- إلا أن التجارب المتميزة فيه جاءت عبر فنانين مزجوا فى تجاربهم بين ما يطرحه العرض من وعى جمالى مضافة إليه الطبيعة الترفيهية، خاصة تجربة الفنان عادل إمام بداية من مسرحية «مدرسة المشاغبين» ١٩٧٧، والتى كانت البداية الحقيقية لعدد من الفنانين أمثال سعيد صالح وهادى الجيار وأحمد زكى، ثم مسرحية «شاهد ماشفش حاجة» ١٩٧٩، والتى شاركه البطولة فيها عمر الحريرى وناهد جبر وسمير ولى الدين، والتى كانت بداية لخط مسرحى تميز فيه «مسرح عادل إمام»- وحتى فى أفلامه السينمائية- والذى يقوم على عنصر المفارقة عبر خلفيات سياسية واجتماعية تعتمد على فكرة النقد الاجتماعى والسياسى عبر فضاء منفتح على دلالات كثيرة، وهذا ما تجلى- أيضًا- فى عروضه التالية مثل «الواد سيد الشغال» و«الزعيم» و«بودى جارد»، وهى عروض لاقت إقبالًا جماهيريًا كبيرًا، حيث استمر عرضها لأكثر من عشر سنوات، وقد وجد عادل إمام مؤلفين يحملون رؤية مختلفة عن المسرح الكوميدى السائد- وقتها- والذى يقوم على طبيعة تجارية، ومن هؤلاء الكاتب سمير خفاجى والكاتب يوسف معاطى، حيث تم طرح كثير من القضايا السياسية والاجتماعية بحرية مطلقة، ومنها علاقة الحاكم والمحكوم فى مسرحية «الزعيم»، وعلاقة التفاوت الطبقى بين فئة اجتماعية تستأثر بالثروة وفئة أخرى مطحونة كما فى مسرحية «الواد سيد الشغال».

والنموذج الثانى فى هذا الإطار هو مسرح الفنان «محمد صبحى»، وهو مسرح يمزج بين الطابع الكوميدى وما يمكن أن يسمى مسرح القضية، وقد تجلى ذلك فى عدة أعمال منها «الهمجى»، و«تخاريف» و«وجهة نظر» و«ماما أمريكا» وغيرها.

وكان لا بد أن تخرج من رحم تلك التحولات تجربة فنية مغايرة تعتمد على أفق مفتوح من التجريب، وهذا ما فعلته الفرق المسرحية الحرة، والتى عملت فى مراحلها الأولى على البحث عن خصوصية فنية، لذا جرب كثير من المخرجين فنون المسرح الشعبى، وامتد هذا التأثير إلى بعض الفرق مثل «الطيف والخيال» والتى أسسها المخرج الراحل بهائى الميرغنى، والتى حاول من خلالها إحياء فن خيال الظل وتوظيفه فى مسرحيات تتعرض لطرح قضايا واقعية.

فرقة زكى أفندى                                                                                    

هناك تجربة رائدة فى هذا المجال قادها الفنان المتميز عبدالعزيز مخيون، الذى قدم رؤية مسرحية مغايرة فى منتصف السبعينيات، وعلى مدار أربع سنوات فى الفترة ما بين ١٩٧٤ حتى ١٩٧٧، بقرية: زكى أفندى بمركز أبوحمص بمحافظة البحيرة.

وعلى حد تعبير «مخيون» فقد بدأت التجربة من سؤال قلق رواده لحظة قدومه من القرية إلى القاهرة حول ماهية المسرح، خاصة وقد جاء إلى المدينة محملًا بإرث ثقافى تكون من خلال الطقوس الشعبية فى القرية، كذلك بعد قراءته كتاب «قالبنا المسرحى» لرائد المسرح العربى توفيق الحكيم، ومقدمة د. يوسف إدريس لمسرحيته «الفرافير»، والتى أشار فيها إلى أن المسرح الحقيقى مرهون بطاقاته التجريبية.

وبالفعل بدأ «مخيون» تطبيق ما قرأ عمليًا، فأعد العدة ونزل إلى قرية زكى أفندى، وهى قرية صغيرة جدًا تنتمى إلى بيئة زراعية محضة، تكاد أن تكون نسبة التعليم فيها ضئيلة للغاية، وللوهلة الأولى ربما نعتقد أن ذلك سيشكل عقبة فى طريق نجاح التجربة، لكن كان لصلة «عبدالعزيز مخيون» بالمكان أثر كبير فى تنفيذ جزء أساسى من التدريبات الفنية التى أشرك فيها عددًا لا بأس به من أهل القرية، أما ما شكّل عقبة كبرى فى طريقه أنه كان ينوى أن يكون نص المسرحية قائمًا على الجمع الميدانى والحكى الشعبى من خلال رؤية متكاملة يشارك فيها الجميع، لكن اصطدم هذا الحلم ببيروقراطية الأداء المؤسسى فى وزارة الثقافة من ناحية، ومن ناحية أخرى بالطابع المتشدد للرقابة، فقد اشترطوا وجود نص مكتوب، رغم أن مخيون كان ينوى العمل على المادة والفكرة، ومع ذلك لم يرد أن يجهض حلمه فى تكوين فرقة مسرحية من البسطاء، فجاء بنص مسرحى لأستاذه توفيق الحكيم تحت عنوان «الصفقة»، وبدأ يدرب عليها الفلاحين الذين غيروا المسرح التقليدى «القاعة الإيطالية» أو مسرح «العلبة»، من خلال تدريبهم فى الحقل، أو على حد تعبيره «الواقع فرض نفسه فكون الشكل الفنى».

فكنا نلاحظ المتفرجين فى أسطح المنازل وفى الجرن وتحت الأشجار، وبهذا تم توظيف المكان كعنصر درامى، رغم الخطاب السوسيو اجتماعى داخل بنية النص المسرحى الذى أحدث نوعًا من الصدام مع المؤسسة الثقافية والسياسية التى طالبت بتغيير الفصل الثالث، وإلا سوف يلغى العرض، وبالفعل توسط الراحل سعدالدين وهبة بين الطرفين، ثم تم الاتفاق على تكملة المسرحية بفصل بديل.