جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

المطوعون!

فى ظرف سياسى معين بدأ عام ١٩٧٩، تغيّرت المنطقة العربية نحو مزيد من التطرف، فى ذلك العام قامت الثورة الإيرانية، ونجحت مجموعة من المتطرفين فى احتلال الحرم المكى الشريف، وتبنت المخابرات الأمريكية المعارضين الأفغان للغزو السوفيتى الذين سموا أنفسهم بالمجاهدين.. نتج عن هذا نمو ثقافة التطرف والتزمت، سواءً عبر حركات التطرف والاتجار بالدين، أو حتى عبر المواطن العادى الذى تأثر بما يراه من حوله، وتنقله له وسائل الإعلام.. فى المملكة العربية السعودية اضطرت الدولة لمجاراة موجة التطرف التى انفجرت فى المجتمع، تباطأت موجة التحديث التى بدأت فى الستينيات وبدأ ما يسمى بموجة «الصحوة الإسلامية».. كان من ضمن تجليات موجة التطرف هذه ظهور ما يسمى بـ«المطوعين» وهم أشخاص يلعبون دور الشرطة الدينية، كانوا يطوفون فى الشوارع وفى أيديهم عصى رفيعة، يراقبون أحوال الناس ويتدخلون فيها، كان من ضمن أدوارهم إجبار المحلات التجارية على الإغلاق فى وقت الصلاة، ودفع الناس للذهاب للمسجد، أيًا كانت الحالة التى هم عليها، كانوا يراقبون أزياء النساء ويمنعون غير المحجبات من السير فى الشارع.. الآن تغيرت المملكة العربية تمامًا.. قطعت أشواطًا مهمة فى طريق التنوير، تم حل هيئة الأمر بالمعروف التى كان يتبعها «المطوعون» بل وظهر قادة الهيئة فى الإعلام ليعلنوا توبتهم وندمهم على ممارساتهم.. ما علاقة كل هذا بنا؟ ما علاقته بواقعة ضرب الصيدلانية إيزيس مصطفى لأنها لا ترتدى الحجاب؟.. هناك علاقة وثيقة للغاية.. لقد تسللت ثقافة «المطوعين» للمجتمع المصرى عبر سنوات، يظن البعض عن جهل حينًا وعن مرض فى نفوسهم حينًا أن من حقهم التدخل فى شئون الآخرين.. يعتقد البعض أن من صحيح الإسلام أن يأكل لحم أخيه ميتًا، وأن يغتابه، وأن يراقب سلوكه، وملبسه، ومظهره، وعلاقته بربه.. هذه ثقافة لا بد من مقاومتها وإعلان الحرب عليها.. فى التسعينيات وصلت ثقافة «المطوعين» لأقصى درجات الانفلات، شهدت المحاكم المئات من دعاوى الحسبة ضد المفكرين والكتاب، كل شخص يظن أن من حقه مقاضاة الآخرين باسم الإسلام، كل شخص كان يتخيل أن من حقه الطعن فى إسلام الآخرين، ما عليه إلا أن يذهب للمحكمة ويتهم الآخرين بمخالفة الإسلام.. عدلت الحكومة قانون الحسبة، وجرت فى النهر مياه كثيرة، وقامت ثورة ٣٠يونيو، وأثرت فى المنطقة كلها، اختفى المطوعون فى المملكة، لكن بقاياهم ما زالت لدينا.. الصيدلانية إيزيس مصطفى نشرت فيديو يصور اعتداءً غير آدمى عليها من قبل زميلاتها وزملائها لأنها غير محجبة، شاهدت جزءًا من الفيديو فوجدت نسوة ذوات أجسام ضخمة يخفينها تحت الحجاب، حجابهن له أسباب اقتصادية واجتماعية غالبًا، المشكلة ليست فى الحجاب، المشكلة فى اعتقاد البعض أن من حقه التنمر بغير المحجبة، أو الاعتداء عليها، هذه جريمة لا بد أن تكون لها عقوبة مغلظة، الحجاب مثل عدم الحجاب حرية شخصية، الملبس ليس دليلًا على الأخلاق، عدد كبير من سيئات السمعة يرتدين الحجاب أو يتسترن خلفه، وينطبق هذا أيضًا على من لا يرتدين الحجاب.. فى التسعينيات قابلت مهندسة تنتمى لعائلة كبيرة وجدها من رواد النهضة المصرية، قالت لى إنها بمجرد التحاقها بأحد فروع الشركات الكبرى.. فوجئت بمديرها يعرض عليها الزواج العرفى! وعندما سألته عن سبب اختيارها هى تحديدًا ليعرض عليها هذا العرض.. أجابها بأنها هى الوحيدة فى الفرع غير المحجبة!! لذلك ظن أنها من السهل أن تقبل هذا العرض غير المحترم.. هذا الرجل نموذج للجهل والسطحية والحكم على الناس بالمظاهر.. وللأسف فإن مثله الملايين فى حياتنا من سلالة «المطوعين» وهواة الحكم على الناس بالمظاهر.. لا يكفى أن نقول إن التدخل فى شئون الآخرين ليس من صحيح الدين.. نريد تطبيق الدستور والقانون.. نريد عقاب من يتنمر على غيره، ومن يعتدى على الحرية الشخصية.. نريد أن يعلن المطوعون لدينا توبتهم وأن يكفوا عن أذاهم وأن يجبرهم القانون على هذا.. وهو يستطيع.