جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الاقتصاد العالمى.. أزمات متتالية

يكمن فى طبيعة النظام الاقتصادى العالمى حدوث أزمات وتقلبات فى مستويات الأداء الاقتصادى، وبخاصة فى ظل صراعات استراتيجيات الهيمنة بين القوى الكبرى، والبحث عن أدوات جديدة للحصول على هذه الهيمنة وتحقيق السيادة الاقتصادية، ومن ناحية أخرى يرى الاقتصاديون أن إحدى ديناميكيات «الدورة الاقتصادية» أن يحدث فى إحدى مراحلها كساد. 

مظاهر هذا الكساد تتلخص فى ارتفاع تكاليف الإنتاج وانخفاض أسعار المنتجات، وبالتالى انخفاض الربحية، وارتفاع معدل الفائدة، وتضييق حجم الائتمان.. كل هذه المظاهر فى النهاية تؤدى إلى انخفاض الإنتاج وزيادة معدلات البطالة وانخفاض القوة الشرائية للمستهلكين حتى نصل إلى انخفاض مستوى النشاط الاقتصادى بوجه عام، وينتهى الأمر إلى أن تسود النظام حالة من التشاؤم تنعكس آثارها فى انخفاض أسعار السندات والأسهم.. وهذا ما حدث فى أزمة «الكساد العظيم عام ١٩٢٩»، والتى بدأت من أمريكا، حيث انهارت أسعار الأسهم بعد فترة من المضاربة والاقتراض التى نتجت عن ارتفاع كبير فى العرض يقابله ضعف شديد فى الطلب.

وإذا انتقلنا إلى التاريخ القريب سنجد أن العالم واجه أزمة أخرى، وهى «الأزمة المالية العالمية ٢٠٠٨»، التى تعزى إلى التوسع فى الدين العام الأمريكى، الناتج عن انخفاض فى سعر الفائدة على العقارات، وهو ما أدى إلى زيادة الإقبال عليها وحدوث الرهن العقارى، وبالفعل أسهم ذلك فى انتعاش قطاع العقارات ورفع أسعاره.

ما جعلنى أشير إلى هاتين الأزمتين هو ما يطرح من أسئلة حول أزمة حجم ديون شركة «إيفرجراند» الصينية، والذى أعلن عنه من أسابيع قليلة، ويبلغ ٣٠٥ مليارات دولار، وحتى تكون الصورة أكثر وضوحًا فإن «إيفرجراند» تعد أكبر شركة تطوير عقارى فى الصين من حيث الإيرادات، وثانى أكبر مطور عقارى من حيث الحجم، وعالميًا تحتل المركز ١٢٢ من بين ٥٠٠ شركة، وتوجد فى ٢٨٠ مدينة.. استفادت شركة «إيفرجراند» من التسهيلات الائتمانية التى تقدمها الحكومة الصينية، وهو بالطبع ما جعلها تحقق هذه التوسعات الهائلة، ولم تكتف الشركة بقطاع العقارات، والذى له النصيب الأكبر فى استثمارات الشركة، حتى «لا تضع البيض فى سلة واحدة»، بل امتد نشاطها إلى قطاع السيارات، والاستثمار فى النوادى الرياضية وغيرها من النشاطات، لتنويع مصادر الدخل وتقليل تعرضها لمخاطر مالية.. وعلى الرغم من ذلك تعرضت الشركة إلى هزة مالية كبيرة تهددها بالإفلاس، وتراجع تصنيفها الائتمانى، وانهارت أسهمها المدرجة فى بورصة هونج كونج بأكثر من ٨٠٪ هذا العام. 

إننا إذن مع تغيرات فى شركة عملاقة، تمثل مكونًا رئيسيًا فى القطاع العقارى الصينى، الذى يسهم فى الناتج المحلى الإجمالى بـ٣٠٪ تقريبًا، أى ما يقرب من ثلث GDP الصينى.. والصين ثانى أكبر اقتصاد فى العالم، وتنافس على المكانة الأولى، وهى ليست أكبر دولة مصدرة فى العالم فقط، بل أيضًا أكبر دولة تجارية من حيث الميزان التجارى، إذ سجلت الصين فائضًا تجاريًا كبيرًا فى عام ٢٠١٩ بلغ أكثر من ٤٢٢ مليار دولار، كما يمثل إجمالى صادرات الصين أكثر من ١٧٪ من ناتجها المحلى الإجمالى، لذا فمن الطبيعى أن يتبادر إلى أذهان البعض سؤال مهم وهو: هل تنتقل أزمة «إيفرجراند» إلى الاقتصاد العالمى، وتتجاوز حدود الاقتصاد الصينى فتصبح نواة لأزمة جديدة من أزمات النظام العالمى؟، وبخاصة أن الاقتصاد يعانى مشاكل كبرى ناشئة عن جائحة كورونا، تتمثل فى تراجع الإنتاج، وحركة التجارة، والاتجاه نحو تقليل سعر الفائدة وزيادة حجم الاقتراض، وهو ما أدى إلى زيادة كبيرة فى حجم الدين العالمى الذى وصل إلى ٢٩٦ تريليون دولار، ومن المتوقع بانتهاء العام الحالى أن يصل إلى ٣٠٠ تريليون دولار.

حتى الآن لم يحدث تأثير جوهرى يمكننا من القول إننا مقبلون على أزمة بنيوية فى الاقتصاد العالمى على النحو الذى حدث فى أزمتى «١٩٢٩، ٢٠٠٨»، لا سيما أن الصين التى تتهيأ لمكانة الاقتصاد العالمى الأول فى الأعوام المقبلة، ستستخدم كل ما تملكه من أدوات لتجاوز هذا الوضع، ويتوقع أن تقوم الحكومة الصينية بضخ المزيد من الأموال، وهى الطريقة التقليدية التى تواجه بها الحكومات مثل هذه الأزمات.. كل هذه التداعيات يمكن اعتبارها جرس إنذار للنظام العالمى فى آليات التعامل مع الأزمات التى يمر بها، ومع استمرار عمليات الإنتاج من ناحية أخرى.