جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

صباحات خريفية

انكسارة الهجير، أفرجت عن تيار منعش كأنما الصباح آتٍ كحلم من بعيد.. بعيد جدًا، كم من أيام ماضية لم أحس فيها طراوة الصباح مهما استيقظت مبكرًا.. تماهت الفصول ما عدنا نعيش إلا قيظًا ممتدًا، لم أرتبط أبدًا بأى نوع من الود مع الصيف طوال عمرى حتى وإن جاء بفسح وإجازات.

زمان كانت الصباحات السبتمبرية تعنى استعادة ألوان من البهجة والسعادات البسيطة، لم تكن صباحات الخريف تأتى بغير «صحبة» من الروائح، الجوافة، التمرحنة، الياسمين.. رطبت النسائم روحًا تتوق إلى السكينة ونوع من الالتئام، التئام أصطنعه أحيانًا كثيرة.

استسلمت لأغنية محمد قنديل «إنشالله.. إنشالله ما أعدمك» تذكرت الفنان السورى دريد لحام وهو يغنيها فى أتوبيس ضمن فيلم له عن الحدود بين البلاد العربية، عزّت «طراوة» ليس النسائم بل الحياة حتى صارت بحاجة إلى اقتناص وسط هجير لا يغادر.. بالمعايشة صرت قادرة على تمييز ما يخرج عن المعتادين أصوات نادرة فى شارعنا وإن تغير الأمر مؤخرًا، بعد الثامنة بقليل تنامى ما لا يمكن أن أخطئه.. ارتطام متتالٍ يعقبه حفيف أشجار، توقفت عن ارتشاف القهوة، تتبعت الأصوات لم أتمالك نفسى، ألقيت برأسى كاملًا من النافذة كان رجل مدكوك الجسد يركن بجلبابه البلدى إلى «موتوسيكل» رافعًا رأسه إلى حيث «المتشعلقين» فوق الأشجار الكثيفة التى تؤنسنى فى شارعنا، تناثر بضعة رجال من العاملين فى النظافة وقد سطعت ألوان زيّهم البرتقالى وسط كثافة فروع الأشجار، بكل ما أملك صحت «يا ريس.. يا ريس بتعملوا إيه».

راح يبحث عن مصدر الصوت وأنا لا أكف.. يا ريس بتعملوا إيه، كنت واعية لما يفعلون لكنى شعرت بأنهم يسحبون نسائم طراوة «خريفى» وهى ما تبقى لا أعرف أين أتتنى تلك السرعة التى ارتديت بها ملابسى لأقف أمام «الرجل» وقد سبقنى صوتى: بتعملوا إيه؟

قال بثقة: إحنا بتوع الحى، زاد خوفى أكثر لطول ما عايشته من مآسٍ كان مصدرها إدارة الحى، قلت فى نفسى هل هى مجزرة أخرى؟ أسهمت النسمات الخريفية التى بدت أكثر وضوحًا أمام البيت فى شعور خفى بأننى على وشك «فقد» جزء من معالم حياتى.

ازداد إصرارى: «يعنى بتعملوا إيه بالضبط؟».

قال الرجل الذى علمت منه أنه مقاول زراعة: نحن نقلم أفرع الأشجار.

قلت: فقط «تقليم».

كان تساقط أفرع الأشجار مستمرًا فى التساقط تحت وطأة «البلْطة» التى فى يد كل عامل من المعتلين الأشجار، أشبه بتساقط الأيام، بتهاوى أطياف من الذاكرة رغمًا عنا.

قلت له: إننى لن أغادر حتى أتأكد.. رحت أحصى الأفرع وأنا أكاد أصرخ «كفاية» إنت مش بتقول «تقليم»؟ كان يشير بيده إشارة بمعنى «اصبرى» حتى جاءت لحظة قلت له بقوة وحسم: كده خلاص أكتر من كده تبقى ناوى حاجة تانية وأنا هروح الحى.

نجح صوتى فى استقطاب جيران، هل بالإمكان أن يتأكد الإنسان؟ أن يطمئن؟ لم أغادر إلا بعد نزول العمال وبعد أن ركب المقاول الموتوسيكل وذهب.. حين تأملت ما جرى اكتشفت أن ثمة تداخلًا ما بين الخشية من تداعى الأيام وسقوط الأفرع، ربما لم أكن أدافع عن أشجار شارعنا قدر ما كنت أقاوم تهاوى ما تعلقت به وعشت فى ثناياه.. لم أعد إلى البيت مباشرة بعدها، أكملت سيرى فى اتجاه ميدان «محندق» أو مجرد «صينية» خضراء أو دائرة تطل عليها عمارتنا وفيلتان وبيت أنيق ثلاثة أدوار يعود إلى أربعينيات القرن وربما ثلاثينياته، ربما يستطيع فنان معمارى أن يحدد عمره من طراز النوافذ والشرفات، لكنه «الأبهى» فى إطلالته على الصينية الخضراء.. لم أعرف من يسكنه ولكنى أحببته وما مرة تطلعت إلى نوافذه الطويلة وشرفاته وحديقته، إلا وأخذنى الخيال إلى من بثوا فيه الحيوات.

نجا البيت من التداعى، لأن الحياة لم تكف داخله، البيوت كالبشر أو البشر كالبيوت، تتداعى مع انسحاب مظاهر الحياة منها، يتجاوز عمر هذا البيت «صديقى» ربما الثمانين.. لكن له طلّة و«شمخة» كما يقول أهلنا فى الصعيد.. هل الزمن متهم برىء؟

من داخل حديقة البيت، كانت تطل أفرع أشجار ما زالت أوراقها تتلون مع الفصول، هذه الأفرع اعتبرتها دومًا علامات الربيع رغم الزمن، كانت الصدفة تجعلنى ألمح البدايات الخضراء فوقها، وكثيرًا ما توقفت شاخصة باحثة عن أولى وريقاتها التى تتنبأ بربيع قادم.. تلاعبت نسمات الخريف بحواف الشجر وكأنها «موسيقى» محتشدة حية حتى مع تباشير الخريف.. فى دواخلنا مثل هذه الأفرع القادرة على الحياة.