جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

حين سلّم المصريون بـ«المكتوب» فى «الخطاب السحرى»

عندما جاء نابليون بونابرت إلى مصر غازيًا نشر بين المصريين أنه مثلهم مؤمن بالله ورسوله، ويعظّم القرآن ويريد هدم الصلبان. أغلب من كتبوا عن هذه الحقبة من تاريخ مصر يقولون إن المصريين لم ينخدعوا بهذه الشعارات البونابرتية البراقة، وكانوا واثقين أن بونابرت يُظهر غير ما يُبطن للإسلام وللعقيدة المحمدية حتى يتمكن من ترويضهم والسيطرة عليهم، ولو أنك قرأت هذه الرواية من وجهة نظر أخرى فقد تخرج بنتيجة مخالفة وتخلص إلى أن بعض مشايخ الإسلام وكبار تجار البلد وأعيانه صدّق قائد الحملة فيما يقول، واعتبروه مسلمًا مثلهم، وأخذوا يدعون العلى القدير أن ينصره على أعدائه. فإذا كان ذلك حال الكبار، فما بالك بالبسطاء من الناس!. ثمة مؤشرات عديدة تدل على أن قطاعًا منهم صدّق نابليون فى زعمه.
رواية مخالفة تمامًا لما تحكيه الرواية العربية لهذا الجانب من جوانب الحملة الفرنسية قدّمها «مواريه» صاحب كتاب «مذكرات ضابط فرنسى فى الحملة على مصر». وقد بدأت تفاعلات الحديث عن إسلام نابليون بين المصريين وكذا فى أوساط الجيش الفرنسى مع ورود رسالة من الباب العالى إلى سكان العريش وشعب مصر، تحذر من «المحتالين الفرنسيين»، هكذا وصفتهم، وكأنها تقرر من البداية أن المصريين يتعرضون لعملية خداع واضحة من جانب نابليون وجنوده، وقال صاحب الرسالة للمصريين «إنهم اليوم- يقصد الفرنسيين- يعاملونكم بالحسنى، ويخدعونكم بتصرفاتهم الحالية حتى يتمكنوا منكم فيحملونكم حينئذ على رد هباتهم مائة ضعف.. سوف يصادرون أموال المؤمنين الحق- ويحمل هذا الوصف إشارة إلى المؤمنين المزيفين الذين خدعهم (بونابرت)- ويستحلون نساءكم ويجعلون أطفالكم عبيدًا».
تحدثت الرسالة بعد ذلك عن أمر السلطان بحشد القوات المسلمة من كل مكان وأنها تحركت ووصلت إلى دمشق، وأنها ستصل إلى القاهرة لتحريرها من الغزاة خلال أيام، وأن السلطنة عقدت اتفاق صداقة مع إنجلترا، وأن الإنجليز سيساعدون العثمانيين فى حرب التحرير، وحملت الرسالة فى ختامها تحريضًا مباشرًا على الثورة ضد الفرنسيين جاء فيه: «فلتتقد حميتكم بنيران الثورة المقدسة.. وبجهودنا وبنية ملكنا.. فهذا هو واجبنا المقدس تجاه ديننا».
عقب هذا البيان اندلعت ثورة القاهرة الأولى ضد الفرنسيين، لكن نابليون تمكن من قمعها. بعدها لعب قائد الحملة لعبته الكبرى على المصريين، وهى لعبة إن دلت على شىء فهى تدل على وعيه السريع بالتركيبة النفسية والإيمانية لأفراد الشعب. فقد أصدر بيانًا تحدث فى بدايته عن الفئة الضالة التى حاولت تحريض الشعب الطيب على الثورة ونجاحه فى إهلاكها، وخاطب المصريين قائلًا: «لقد أمرنى الله بالتسامح والرحمة مع الشعب، فكنت متسامحًا ورحيمًا بكم، فقد محا سلوككم الطيب الأثر الذى خلفته ثورتكم».
بدأ نابليون اللعبة بتوجيه حديثه إلى الأشراف والعلماء وخطباء المساجد، وطلب منهم أن يعلنوا للناس أن أحدًا لن يستطيع النيل منه، وأن من يُعاديه لن يجد لنفسه ملاذًا فى الدنيا ولا فى الآخرة، ثم استطرد قائلًا: «هل هناك إنسان تعميه الغشاوة عن التأكد من أن القدر ذاته هو الذى يقود جميع عملياتى؟ وهل من أحد على هذا القدر من السذاجة حتى يشكك أن كل شىء فى هذا الكون الفسيح ليخضع لسطوة القدر؟ فلتقولوا للشعب قد قدر منذ بدء الخليقة، أنه بعد القضاء على أعداء الإسلام وإرخاء الصلبان، سوف آتى من أعماق الغرب لأنفذ المهمة الملقاة على عاتقى.. وضّحوا للناس أن أكثر من 20 آية فى القرآن تفيد بأن ما يحدث قد قدر».
يحكى «مواريه» أن بعض المشايخ والوجهاء انخدعوا بكلام نابليون، وتبنوا وجهة نظره، وتحركوا لتهدئة الشعب، وبعد هذا الخطاب السحرى بدأت الشائعات تلاك على الألسنة، بعضها يقول إن السلطان الفرنسى سوف يُختن، وبعضها يقول إنه سيتبع دين محمد هو وجنوده، وإن قائدًا مثله جدير بالطاعة. وقد ظل هذا التأثير قائمًا لدى البعض بعد شهور من ثورة القاهرة الأولى.
فبعد عودة نابليون وجنوده مجللين بالفشل فى اقتحام عكا، بعد المقاومة الباسلة لأحمد باشا الجزار، يحكى مواريه «أن فرحة الشعب وكبار رجال الدولة كانت بالغة بعودة نابليون إلى القاهرة، ولم يكفوا عن الهتاف له ولأعماله الجليلة». بهذه الصورة استقبل الشعب وكبار رجال الدولة نابليون وهو عائد من عكا بعد أن أشاع كذبًا أن الفرنسيين دكوا حصونها وقتلوا جنودها، لكن الجنرال تمكن من خديعتهم بقوله: «إننا ما تركنا سوريا إلا لأن الأقدار كانت تنادينا للعودة لمصر».. اقتنع المصريون بقول نابليون حول «نداء القدر» ودعوا له وهللوا لأكاذيبه، وهو ما دعا «مواريه»، ضابط الحملة، إلى القول: «والحقيقة أنه لا بد من التعامل مع هذا الشعب حتى يدرك مبلغ جهله وسذاجته».
اللافت أن موقف الفرنسيين من كلام «بونابرت» كان مختلفًا، فقد كانت لديهم قناعة بأن نابليون يناور على المصريين، وجعل بعضهم كلماته حول الإسلام مادة للمزاح والتنكيت، وراح المثقفون منهم يسخرون منه، وكان من رأيهم أنه لم يحاربوا المعتقدات الأوروبية الخاطئة ليعتنقوا المعتقدات الشرقية، وأنه لا سبيل إلا بقول الصدق للشعوب، أما من يفهمون فى السياسة من الجنود فقد أيدوا ما فعله نابليون، وردد بعضهم أن الكذب جزء من اللعبة السياسية.
انخداع بعض كبار وبسطاء المصريين بلعبة «القدر» التى لعبها عليهم نابليون وارد بالطبع، وله أسبابه التى يأتى على رأسها أن الاستناد إلى القدر جزء من التركيبة التبريرية للعقل المصرى، فكل شىء مردود بالفعل لقضاء الله وقدره، وما قدره الله لا يستطيع أن يحول دونه عبد، أمر آخر أسهم فى ذلك يتمثل فى أن كثيرًا من المصريين يأخذون بالظاهر فى مسائل الدين، فتدين بعضهم يكاد يكون ظاهريًا، كما أن حكمهم على تدين غيرهم أساسه المظهر فى بعض الأحوال، وأغلبهم يتعامل مع الدين بمنطق الحفظ والثابت، وليس بمنطق الفهم والنسبى.
سبب آخر يمكن أن يفسر هذا الانخداع يتعلق بحالة التعب والإرهاق وكذلك الخوف والقلق الذى أصبح يتعامل به كثيرون بعد سحق نابليون ثورة القاهرة الأولى، والإنسان فى حالات الضعف والهزيمة والانكسار يسهل عليه قبول ما لا يتقبله فى حالته الطبيعية أو الاعتيادية. من الوارد فى مثل هذه الأحوال أن يتماهى المقهور مع قاهره وما يردد من كلمات.