جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«الدستور» ترافق متطوعين للأعمال الإنسانية فى إفريقيا

رُسل الخير
رُسل الخير

 

لا يبحثون عن الشهرة أو المال، وكل ما يحتاجون إليه هو رؤية ابتسامة طفل إفريقى بعد حصوله على الماء أو الطعام أو الدواء.. يقدمون خدمات جليلة، ويتركون كل شىء فى الحياة ويرضون بلقب «متطوع».

«الدستور» تسلط الضوء فى هذه السطور على جهود المتطوعين للعمل الخيرى فى إفريقيا، بقصة واقعية، بدأت حينما طلبت أم مصرية منّى أن أصطحب طفليها المراهقين معى خلال رحلتى إلى كينيا وتنزانيا وإثيوبيا، ليتعلما العمل التطوعى ويكتسبا خبرة فى الحياة.

الأم، التى عملت لأعوام كمضيفة طيران، تدرك أن التطوع سيؤثر بشكل إيجابى على بناء شخصية الطفلين، وقالت: «أريد أن أجعل طفلىّ يدركان أن الحياة لا تتمحور حول ما يملكانه أو ما يرغبان فى الحصول عليه.. أحاول جعلهما يدركان حجم النعم التى تحيط بهما».

لم أستطع رفض طلب الأم، رغم درايتى بأننى سأبذل مجهودًا كبيرًا كى أعلم مراهقين معنى التطوع وإعطاء الأولوية لتوفير احتياجات الغير قبل الاحتياجات الشخصية، وأنقل لكم تلك التجربة تقديرًا لدور المتطوعين فى دعم الترابط بين الشعوب الإفريقية، وتبادل الثقافات، وإنقاذ الفقراء والمرضى.

البداية من القاهرة إلى نيروبى.. وتحمل المصاعب أول طريق الإنجاز

فى مطار القاهرة، ودع الطفلان أمهما، وتحركا معى إلى الطائرة المتجهة إلى مطار نيروبى الكينى، كنت منشغلة حينها بترتيب أولويات العمل خلال الرحلة، وتضمنت التنسيق مع الحكومات حول توقيتات افتتاح المشروعات، ومتابعة العمل بالمخيم الطبى الذى نجح المتطوعون المصريون فى إقامته فى تنزانيا، إضافة إلى رعاية طفلين مراهقين. 

فى البداية وصلنا للعاصمة نيروبى، ومكثنا الليلة فى نزل بأحد الأحياء الشعبية، ثم استيقظنا وركبنا القطار المتجه إلى مدينة مومباسا لنشهد افتتاح بعض آبار المياه، وهناك شعر الطفلان بحماس كبير حينما شاهدا فرحة الأسر الفقيرة بالمياه النقية المتدفقة.

فى اليوم التالى، ذهبنا لنشهد توزيع اللحوم على الفقراء، بعد ذبح عدد كبير من الماشية بتبرعات من أهل الخير، وعدنا بعد ذلك إلى العاصمة الكينية لنركب القطار المتجه إلى دار السلام، عاصمة تنزانيا.

بعد وصولنا إلى تنزانيا، انتظرنا على الرصيف حتى صباح اليوم التالى، ثم ركبنا العبّارة لنذهب إلى جزيرة زنجبار، وحينما وصلنا حصلنا على راحة لمدة نصف الساعة للاستحمام وتغيير الثياب، التى ظلت فوق أجسادنا لمدة تتجاوز ٤٨ ساعة.

ذهبنا بعد ذلك لموقع المخيم الطبى، وكان يومًا جميلًا، رأى فيه الطفلان كيف ساعد الأطباء المرضى، وتذوقا الطعام الشعبى التنزانى، ولعبا ورقصا.

كما تعرف الطفلان على المعالجة الاجتماعية شاهندا سعد، التى لها خبرة كبيرة فى التعامل مع المراهقين، وكانت فرصة جميلة للتحدث معها حول قضية التطوع.

تقول «شاهندا» لـ«الدستور»: «لكل منا احتياجات، هى السبب الرئيسى لكل قرار نتخذه، وما لا يعلمه كثيرون أن العطاء من الاحتياجات الرئيسية للإنسان، فحينما يقدم الدعم لغيره يشعر بسعادة كبيرة».

وأضافت أن الحياة تصبح بلا معنى إن اكتفينا بتحقيق احتياجاتنا الشخصية، ولا نشعر بأن للحياة معنى إلا حينما نساعد الغير أو ننتصر لقضية ما، موضحة: «العطاء لا يقتصر على النشاط الخيرى أو التطوع بالوقت والجهد لمساعدة الغير، بل يمكن أن يكون غرس شجرة أو تأليف كتاب.. حسب ما يستطيع الإنسان أن يقدمه».

وأكدت: «العطاء فى حد ذاته يجعل الإنسان يشعر بالرضا والسعادة، وأطلق عليه مسمى (عمل تطوعى) لأن الإنسان يقوم به طواعية دون إجبار، فهو ناتج عن إرادة حرة، صاحبها اختار الخير ورفض الشر، وساعد على ازدهار المجتمع».

وقالت إن التطوع فعل ملهم للغير، وقادر على تغيير ثقافة جيل كامل، موضحة: «مشاركتك فى العمل التطوعى بأى شكل تكون سببًا فى إلهام أقرب الأشخاص إليك، صديق أو أخ، ليزيد بذلك عدد المتطوعين عبر نقل فكرة التطوع بين الأشخاص».

وأكدت: «التطوع يجعل المراهق شخصًا سويًا، ويستثمر طاقة الشباب، ويجعلهم يتعلمون القيادة والتعامل مع المشكلات المختلفة»، ولفتت إلى أهمية أن يوضح الأهالى أهمية العمل التطوعى لأبنائهم. 

مكاسب العمل الخيرى: محبة الحياة وتقدير الذات والشعور بالسعادة

عن الأسباب التى تدفع الناس للتطوع، تقول «شاهندا»، إن الكاتبة الكبيرة cloe madanes، تقول فى أحد كتبها، إن العمل التطوعى يحقق مكاسب كبيرة للمتطوع، منها شعوره بالرضا والسعادة، مؤكدة: «تتحسن جودة حياة المتطوعين.. لا شك».

وأضافت أن التطوع يساعد على التعرف على أصدقاء جدد، موضحة: «يعد التطوع خيارًا رائعًا عندما يتعلق الأمر بالاحتياج إلى مقابلة أشخاص جدد، وهذا يجعل ثقة المتطوع فى نفسه تزداد، فضلًا عن زيادة مهاراته الاجتماعية، ومنها قدرته على التواصل الفعال مع محيطه وتعلم اللغات».

وتابعت «شاهندا»: «إن تذكر أى شخص نفسه لحظة استطاع خلالها إسعاد غيره، سيتذكر بالتوازى إحساسه هو بالسعادة حينها.. نحن نؤمن بأن العمل التطوعى هو أفضل طريقة للحصول على الرضا عن طريق ترك أثر فى حياة الآخرين، لأن تغيير حياة الآخرين-حتى لو بقدر بسيط- يعطى شعورًا بأهمية الحياة».

ولفتت إلى أن التطوع يساعد أيضًا على جعل الإنسان واسع الأفق، موضحة: «سواء كنت طالبًا أو خريجًا جديدًا أو حتى موظفًا وتبحث عن طريقة لجعل حياتك أفضل، فكل ما عليك هو التطوع.. سيجعلك سعيدًا بالتأكيد».

ونوّهت بأن التطوع يمكن أن يمنح صاحبه خبرة فى مجالات كثيرة، وفرصة لتعلم مهارات حياتية متنوعة، مثل العمل الجماعى والتخطيط للمشروعات وإدارة الوقت، وقالت إن التطوع يجعل صاحبه يقدر قيمة الحياة، لأنه يعطى سببًا قويًا للاستمرار فى العيش.

وأكملت: «رؤية مصائب الآخرين والتحديات التى يواجهونها، تدعم الإحساس بالتعاطف، ويصبح الإنسان راضيًا عن وضعه الحالى، ويرى أن مشكلاته بسيطة مقارنة بمشكلات الغير»، مشيرة إلى أن التطوع يحسن الحالة البدنية والعقلية للمتطوع.

وأوضحت «شاهندا»: «دورك كمتطوع يمكن أن يعطيك شعورًا بالفخر والانتماء لقضية، ويعد الحد من مخاطر الاكتئاب ميزة أخرى مهمة للتطوع، إذ إن العمل الخيرى يبقيك على اتصال دائم مع الآخرين. ومن حيث الصحة البدنية، فيمكن أن يساعدك التطوع على البقاء بصحة جيدة بسبب كثرة التنقل وممارسة النشاطات المختلفة».

جودى الصاوى، ١٧ عامًا، هى المتطوعة الأولى، قالت إن الرحلة جعلتها تدرك أن إفريقيا كنز كبير «جنة على الأرض»، مشيرة إلى أنها كانت فى البداية تفكر فى أنها ستقضى إجازتها بشكل مختلف فقط، وبعد ذلك أدركت أنها تعلمت خبرات كثيرة.

وأوضحت «جودى» لـ«الدستور»: «تعلمت الإيثار، وشاهدت أمًا سعيدة بأن أطفالها العطشى يشربون أخيرًا، وجدت أطفالًا يتنازلون عن أبسط حقوقهم- مثل التعليم- لكى يساعدوا فى توفير مياه الشرب لأسرتهم، عبر قطع مسافة كبيرة مشيًا، كل يوم، فى طرق شديدة الخطورة»، لافتة إلى أن هناك عائلات تجد الطعام والماء، ولا تشعر بأنها تعيش فى رغد بالنسبة لأناس آخرين.. القناعة هى الكنز الأكبر».

وتابعت: «شعرت بسعادة كبيرة حينما رأيت الأطفال يرقصون حول آبار الماء بعد افتتاحها.. كانت فرحة صادقة شعروا بالاطمئنان وقالوا لنا إنهم يحبون مصر»، وقالت: «لا أستطيع وصف إحساس السعادة الذى شعرت به حينما أحسست أننى كنت سببًا فى إسعاد شخص ما.. نسيت التعب مع أول ابتسامة أراها على وجه طفل.. فلوس الدنيا كلها ما تساويش حاجة جنب الإحساس ده».

حقوق المتطوعين.. وسياسات تعامل المشرفين معهم

 

تضع كل مؤسسة خيرية لوائح داخلية توضح حقوق المتطوعين وواجباتهم، ويجرى تطبيق هذه السياسات على المتطوعين بمجرد التعيين، ويجب عليهم معرفة وفهم حقوقهم وواجباتهم.

وتشمل الحقوق «وصفًا واضحًا ومكتوبًا للفرصة التطوعية، وأن يكون المتطوع مناسبًا للعمل، وأن يخصص له مكان مناسب وبيئة صحية لممارسة عمله، ومعرفة هوية مشرفه وكيفيه التواصل معه، وتوفير الحماية والسلامة له عند تنفيذ العمل التطوعى، والحفاظ على سرية معلوماته، وإشراكه فى اتخاذ القرارات، والأحقية فى التعبير عن المخاوف أو إبداء الاعتراض، والحصول على إثبات يوثق مساهمته بوقته ومهارته وأفكاره وخبراته». فى المقابل، لا بد من التأكد من فهم المتطوع لمسئولياته وواجباته عند تعيينه، ولا بد من التأكد من أن لدى المتطوع وقتًا كافيًا لبذل الجهد. ومن واجبات المتطوع: «العمل ضمن سياسات وقواعد المنظمة أو الشركة، واحترام خصوصية الموظفين أو العملاء أو الأعضاء والمتطوعين الآخرين، وأن يكون شخصًا مسئولًا ويمكن الاعتماد عليه، وأن يلتزم بساعات العمل الرسمية، وأن يبلغ المؤسسة حال عدم قدرته على الاستمرار، وأن يكون وفيًا للمنظمة، وأن يشارك فى التدريبات، وأن يتبع توجيهات المشرف، وأن يستطيع العمل فى إطار مجموعة، وأن يكون ملتزمًا بحقوق الإنسان ومؤمنًا بالتنوع وضرورة المساواة بين الجنسين».

مخاطر محتملة.. الطريق ليس مفروشًا بالورود

لم يكن المطلوب فقط أن أطلع الطفلين على إيجابيات التطوع، بل كان من الضرورى أن يعرفا أن الطريق نحو هذا الهدف ليس مفروشًا بالورود، وأنهما قد يقدمان الخدمات التطوعية فى أماكن وظروف خطرة، تتطلب منهما اكتساب خبرات معينة عبر التدريب.

ولأحصل عن معلومات كافية حول مخاطر التطوع، تواصلت مع مسئول فى إحدى المنظمات الدولية الكبيرة، رفض نشر اسمه امتثالًا لقواعد الأمان فى منظمته، وقال لـ«الدستور»، إنه يمارس العمل التطوعى منذ نحو ١٥ عامًا، وإنه ولد فى قارة آسيا، لكن أغلب حياته عاشها فى إفريقيا.

وأضاف: «التطوع يحقق فوائد للمتطوع وللمجتمع ولمنظمته، لنفسه عبر التعلم وتطوير المهارات، لأن المتطوع يكون صغير السن عادة، وتكون تجربة التطوع هى نافذته على الواقع.. يتعلم العيش بموارد قليلة، إذ إن المنظمات توفر مبالغ للمتطوعين تكفى لتوفير الطعام والسكن والتنقلات فقط».

وتابع: «أما المجتمع، فيستفيد بزيادة عدد المشروعات ومقدمى الخدمات، لأن المبلغ الذى ستوفره المنظمة باعتمادها على المتطوعين، لا الموظفين، يساعد على تنفيذ مزيد من المشروعات.. يمكن لراتب موظف واحد أن يدعم حياة أكثر من متطوع».