جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

طارق المرصفى

هناك أشخاص يرسلهم الله سندًا لأصدقائهم، حتى لو تباعدت اللقاءات، وجودهم هناك يبعث الطمأنينة، والذكريات الكثيرة بينك وبينهم تنثر غلالة من الشجن بمجرد ذكر أسمائهم، ليس ضروريًا أن يكون هؤلاء من الذين يتقاطعون معك فيما يشغل المحيطين بك من الأدباء أو الفنانين أو الصحفيين أو السياسيين، رغم وجودهم فى قلب كل الأحداث التى شهدتها فى حياتك.

عندما يرحل واحد من هؤلاء تشعر فجأة بأنك وحيد، وحيد لدرجة مؤلمة، حين أيقظنى يحيى وجدى، أمس الأول، ليقول إن طارق المرصفى «تعيش إنت»، لم أستوعب الخبر، وتعاملت مع الأمر على أننى خارج من كابوس، إلى أن أكد لى ابن خالته «عمر سرايا» الخبر، كنت أستعد لكتابة مقال ينبغى أن أرسله، ولم أستقر على موضوعه بعد، جلست ساهمًا لمدة ساعتين على الأقل، يمر شريط العمر أمامى مبللًا بالدموع، ما بيننا من أخوة وصداقة وسفر وبحر وسهر وضحك ومواساة لا يمكن التعبير عنه باللغة، أنت أمام شخص مبهج، تبحث عنه وتلتقيه لتغسل روحك من الهموم، المحبة التى يحملها للجميع رفعت منزلته عند الجميع، تجاربه الغزيرة فى الحياة جعلته قليل الكلام، وجعلته يتحصن بابتسامته لمواجهة العالم، ابتسامته هذه هى بطاقته التى يعرف بها نفسه، ابتسامة طفولية صافية لا شوائب فيها ولا مكر، ابتسامة ودودة تنتمى لعوالم المتصوفة وأهل الطريق، رغم النجاحات التى حققها فى حياته، كان يشعر دائمًا بأنه لم يحقق أحلامه بعد، طارق الذى تخرج فى كلية الفنية العسكرية وترك الخدمة مبكرًا؛ لأن الفنان الذى بداخله لن يتحمل الصرامة التى يحتاجها العمل العظيم، خبير الفن التشكيلى الذى يملك أعظم اللوحات لكبار فنانى مصر، ويحمل كنوزًا من الحكايات معهم، رجل الأعمال الذى يدير أهم أماكن البهجة التى تحتفى بالحياة والفن والشعر والغناء، والده آمال المرصفى، أحد رجالات يوليو، مدير المسرح القومى فى ستينيات القرن الماضى، أثر فى شخصيته، ويتحدث عنه دائمًا كأنه يتحدث عن صديق من نفس سنه، أعرفه وأنا فى العشرينيات من عمرى، ورأيت عمر وندا يكبران أمام عينى، وشهد كل منا حياة الآخر بحلوها ومرها، طوال عمره كان يغمرنى بكرم المشاعر التى لا يعرفها غير التى كان يحتاجها. 

طارق المرصفى كان يشعر بأنه مسئول مسئولية مباشرة عن إسعاد الآخرين، يحكى الفنان فتحى عفيفى كيف وقف إلى جانبه سنوات طويلة لكى يرسم، يرسم فقط، فى بداية الجائحة، أراد أن يخترع مناسبة ليحتفل بالفنان الكبير لطفى لبيب ليخرجه من الأجواء المقبضة التى حاصرت البشرية، ذهبنا أنا ولطفى وشهدت بعينى كرم المشاعر ونظرة الامتنان فى عينى المحتفى به، زوجته العظيمة كريمة عبدالكريم تملك الكثير من شخصية ومحبة وكرم ونبل زوجها، هما معًا يمثلان لكل من عرفهما شيئًا عزيزًا على القلب والعين والروح. 

طارق المرصفى ليس شخصًا عابرًا فى حياة من عرفوه، محظوظون من صادقوا هذا الكائن الكونى الذى شكّل فى مرحلة ما من العمر كتيبة لإشاعة البهجة مع رضوان الكاشف وصلاح عنانى وعادل السيوى ومجدى أحمد على ورءوف عياد وجميل شفيق وسيد حجاب وعماد أبوغازى وبثينة كامل وفوزى الهوارى وعرب لطفى وسيد خميس ومحمد رفاعى وجودة خليفة، وعشرات من الذى كانوا عنوانًا للقاهرة وليلها، الحدائق التى كانت بينى وبين طارق المرصفى كانت بلا أسوار، كان إلى جوارى طوال حياتى داعمًا ومحرضًا على البهجة، حارسًا للصداقة.. بفقده فقدت جزءًا عزيزًا من العمر، فقدت أخًا وصديقًا ورفيق سفر، فقدت سندًا معنويًا كنت أدخره طوال الوقت لمواجهة الأيام الصعبة التى يتساقط فيها الأصدقاء.. رحمة الله عليك يا أعز الناس.