جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

دروس المشير طنطاوى

حياة كل منا بها وقائع كثيرة، لكن ما يبقى منها هو الدرس الذى يمكن أن يتعلمه الآخرون، أو المعنى الذى يبقى من الوقائع، وبقدر ما يكون المعنى أخلاقيًا وإنسانيًا تكتسب حياة كل منا قيمتها، ويكون الحكم عليها.. والحقيقة أن المعانى التى تركها المشير طنطاوى كثيرة، تستحق الاحتفاء بها، والتوقف أمامها.. نحن أمام مصرى وطنى من أصل نوبى، ينتمى إلى جموع المصريين ويحافظ على بساطة حياته وصلته بأهله فى حى عابدين حتى أيامه الأخيرة.. وهو يدخل الجيش المصرى فى أعقاب ثورة ٢٣ يوليو مباشرة ليكتسب مجموعة من القيم الوطنية، ولفهم دوره كضابط وطنى، يظل محتفظًا بها حتى نهاية حياته، وتلقى ظلالها على تصرفاته، قبل وبعد ما جرى فى يناير.. بطولته الأبرز كانت فى معركة المزرعة الصينية فى أكتوبر، حيث كان يقود كتيبة شاء القدر أن تتصدى لقوات آرييل شارون التى حاولت أن تقوم بعبور عكسى عرف باسم «ثغرة الدفرسوار»، وعلى حد شهادة شارون نفسه، فقد رتب المقدم حسين طنطاوى كمينًا فى مزرعة كانت ترابط فيها كتيبته تعرف باسم المزرعة الصينية، امتنع عن إطلاق النار على الإسرائيليين فظنوا أن المكان آمن، وعندما دخلوا نطاق نيرانه ألهب الدبابات بنيران مدفعيته، وتسبب فى خسارة ٦٠ دبابة، ومقتل ٢٠٠ جندى إسرائيلى، حمته رتبته الأصغر من أن يخرج فى تصفيات قادة أكتوبر التى أجراها السادات ومن بعده مبارك، وتدرج فى مناصب مهمة فى القوات المسلحة حتى عُين وزيرًا للدفاع بعد مرحلة انتقالية حرجة، وكان خلفًا فعليًا لوزير دفاع كبير هو المشير عبدالحليم أبوغزالة، كان جنديًا مخلصًا لقائده الأعلى طالما ظل الرجل على عهد العسكرية المصرية وقيمها، وعندما لاحظ التغيرات التى اعترت شخصية مبارك وتركيبة الحكم فى مصر لم يتردد فى إعلان موقفه بشجاعة تحسب له، أعلن معارضته الواضحة لتوريث مصر لرئيس لم يؤدّ الخدمة العسكرية، واحترم تاريخه لأقصى درجة، روى عنه أنه كان يعرض أمرًا ما على مبارك فطلب منه أن يعرضه على نجله جمال.. ارتدى كابه وودع مبارك وخرج من مكتبه إلى باب الخروج، واعتبر أنه لم يسمع شيئًا، كانت النخبة التى حكمت مصر فى آخر عشر سنوات تعتمد على توريط قادة المؤسسات الوطنية عبر شراكات تجارية مع أقارب وأبناء، لكن الرجل ظل عصيًا على هذا المخطط، الذى تورط فيه البعض هنا أو هناك كاستثناءات تؤكد القاعدة.. تصدى لمحاولات بيع أصول الدولة المصرية وأطلق العنان لغضبه، وشاع عنه أنه خاطب وزراء أمانة السياسات قائلًا «إنتم عايزين تبيعوا مصر».. حين أدرك أن مبارك سار فى طريق اللاعودة، انحاز لثورة يناير، مستجيبًا لتقرير كتبه تلميذه اللواء عبدالفتاح السيسى قائد المخابرات الحربية وقتها، أدار المرحلة الانتقالية بحس صوفى، وبدا زاهدًا، متحملًا الإساءة، وبدا أنه يتحمل ما لا طاقة له به، كان واسع البال، يشغله الحفاظ على مصر وألا تنزلق لمصير البلاد التى اشتعلت فيها الحروب الأهلية، سلم البلد لمن أتت به نتائج الانتخابات وفى ذهنه أن الجيش سيبقى حاضرًا وحارسًا ومراقبًا، وبشكل ما وصل بالبلاد إلى بر الأمان عبر طريق غير مباشر.. من دروس حياته فى العسكرية أيضًا ضرورة التفكير فى المستقبل، وهكذا لفت انتباهه الحس القيادى لضابط برتبة نقيب لاقاه فى وحدة عسكرية، أصدر أمرًا بنقل الضابط لمقر وزارة الدفاع، ومنحه مهامّ مختلفة حتى صار مؤهلًا لتولى القيادة كأحسن ما يكون التأهيل، ولم يكن هذا الضابط سوى المشير عبدالفتاح السيسى.. ويبقى هذا درسًا يمكن أن يتعلمه كثيرون بعد أن سادت الحياة المدنية ممارسات التفكير فى قتل الموهوبين، وإجهاض الأجنة الموهوبة، وتعطيل الذين يحتمل أن يصبحوا بدائل للمديرين فيما بعد، وهى ممارسات تعاظمت فى سنوات الركود الطويلة التى عرفتها مصر قبل يناير.. من دروس المشير طنطاوى أيضًا، أن التعامل بذكاء مع الطبائع النفسية للبشر لا يعنى التورط فى تنازلات أخلاقية، فقد تعامل بذكاء مع طبيعة الرئيس مبارك، وأدرك دخائل شخصيته، وحافظ على استقرار القوات المسلحة طوال عشرين عامًا، وصان مقدراتها، وعظم قدراتها الاقتصادية، لكنه حين آن أوان الاختيار انحاز لما رآه الأفضل لمستقبل الدولة المصرية، وفى الوقت الذى تورط فيه قلة من مجايليه من العسكريين فى أنماط الحياة الجديدة وشاركوا النخبة الاقتصادية أنشطتها وسكنوا فى أماكن مثل جولف القطامية وغيرها، حافظ الرجل على نمط حياة يبدو بسيطًا بالمقارنة بما كان يمكن أن يحققه، كان يصلى الجمعة مع زملائه، يشجع نادى الزمالك، وكشفت صورة فوتوغرافية لمنزله عن أنه ليس ثمة شىء لافت، أو مختلف عن بيوت رجل يعمل منذ ستين عامًا تقريبًا.. يبقى المعنى الأهم، وهو أن التاريخ يحكم بمنتهى العدل، وأن الذين يختارون الوطن يحفظهم الوطن فى قلبه.. والمشير طنطاوى واحد من هؤلاء بكل تأكيد.