جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«الحلاقة».. من زمن «شوشة الجنة» إلى فتاوى «المتشبهين والمتشبهات»

حدثتك عن طقوس تناول الطعام والشراب فى بلادنا أوائل القرن التاسع عشر، تعال هذه المرحلة نتناول طقوس «الحلاقة»، والطرق الخاصة التى سلكها المصريون فى العناية بالشعر النابت فى الجسم، وكيف كانت أغلب هذه الطرق مؤسسة على رؤى دينية وتقديرات شرعية.

كانت لأولاد البلد فى ذلك الوقت طريقة خاصة فى حلاقة رءوسهم، فقد كانوا يعمدون إلى إزالة شعر الرأس كاملًا، باستثناء خصلة فى مقدمته، كانوا يطلقون عليها «شوشة»، وكان لهذا التقليد فى الحلاقة أصل دينى كما يقرر «مواريه»، صاحب كتاب «مذكرات ضابط فى الحملة الفرنسية على مصر»، فقد اعتقد بعضهم أن النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، سوف يأتى إليهم فى لحظاتهم الأخيرة ليشدهم من هذه الخصلة ويقودهم إلى جنان الخلد. وعلى مستوى اللحية، فقد كانوا فى أغلبهم لا يحلقونها أبدًا، متذرعين بأنها سُنة عن النبى، ومحتجين بالحديث النبوى: «اعفوا اللحى وحفوا الشوارب».

«قَصة الشَّعر» التى تعوّد عليها بعض المصريين فى ذلك الوقت، قد يراها أهل زماننا مضحكة «رغم أننا شهدنا فى عصور لاحقة قصات أشد إضحاكًا»، لكنها كانت تمثل أشهر «القصات» فى وقتها، وكانت غالبية المصريين ترى أن تلك هى طريقة إكرامهم لشعرهم النابت فوق رءوسهم، إعمالًا لحديث النبى، صلى الله عليه وسلم: «من كان له شعر فليكرمه» حتى يكرمهم النبى بالتبعية فيشدهم من هذه الخصلة الأمامية إلى الجنة.

خلال هذه الفترة كان المصريون يحلقون فى الطرق العامة، حيث كان محل الحلاق هو الرصيف الذى يجلس عليه وإلى جواره عدته، فى انتظار رزقه الذى خبأه له الخالق فى رءوس العباد، وعندما كان يشعر بعض العاملين فى هذه المهنة خلال القرن التاسع عشر بأن الرزق لا يأتيهم وهم جالسون على الرصيف أو فى ظل شجرة، كانوا يسعون إليه، فيحملون عدتهم، ويطوفون بالشوارع والبيوت عارضين خدماتهم على من يريد أن يكرم شعره بـ«شوشة» يُساق منها إلى الجنة. ومن اللافت أن ظاهرة «الحلاق الطواف» ظلت موجودة حتى نهايات القرن العشرين، وكان أبطالها حلاقين، يتفاوتون فى مهاراتهم، آثروا وضع عدتهم فى شنطة ليطوفوا بها من بيت إلى بيت يحلقون الرءوس واللحى لمن يريد، وكان يلجأ إلى هذه الطريقة فى العمل من لا يملك أو يعمل فى محل ثابت يقدم خدماته للجمهور، أو يفضل البُعد عن صداع وتكاليف المحلات ويلجأ إلى العمل المستقل، القائم على الحركة والرافض فكرة الثبات.

كان «الحلاق» بطلًا من أبطال القرية المصرية وكان يلعب إلى جوار تهذيب الشعر واللحى دورًا آخر أشد خطورة هو دور «طبيب القرية»، فيقوم بالحجامة ووصف اللبخات وإعدادها وغير ذلك. ولعلك تذكر أن عميد الأدب العربى طه حسين روى فى كتاب «الأيام» أنه فقد بصره على يد حلاق القرية. ومن المؤكد أن الحلاق المذكور لم يكن يقصد، ولا أهل العميد كذلك، أن يصاب الطفل الذى يستقبل الدنيا بهذه الآفة، لكنه كان العرف الجارى فى ذلك الحين، ولم يكن هناك بد من اللجوء إلى الحلاق حال المرض.

ورغم ما كان يحظى به الحلاق من أهمية وقيمة، سواء داخل القرى أو المدن، فإنه أحيانًا ما كان ينظر إلى هذه المهنة نظرة دونية، رغم أن صاحب أدواتها كان الشخص الذى يهيئ شعر المصريين لتتصدره الخصلة التى يسوقه منها النبى، صلى الله عليه وسلم، إلى الجنة، ولكن يبدو أن البعض بدأ فى التخلى عن هذا الفكر العجيب، مع الانتقال من عقد إلى عقد خلال القرن التاسع عشر، ومع دخول القرن العشرين، بدأ بعض الأبناء يتبرأون من مهنة آبائهم، إذا كانوا ممن يحترفون الحلاقة، شأن العديد من الأبناء الذين مالوا إلى التبرؤ من آبائهم إذا كانوا عمالًا أو فلاحين، بعد أن هاجروا إلى القاهرة، والتحقوا بوظائف مرموقة، أو أصبحوا ضمن نجومها.

تجد هذا الملمح حاضرًا فى رواية «ثرثرة فوق النيل» للمبدع نجيب محفوظ وهو يصف تركيبة رجب القاضى الفنان نجم العوامة على لسان «سمارة»، التى تقول عنه: «أبوه حلاق، وما زال يمارس مهنته فى كوم حمادة، رغم لمعان ابنه، من كبرياء من ناحيته أو نذالة من ناحية ابنه».

هذا التناقض بين الظلال الدينية لمهنة الحلاق فى القرى وتدنى النظرة إلى المهنة التى يعمل فيها فى القاهرة، كانت تعكس صراعًا أوليًا اشتدت وطأته فيما بعد بين ما هو دينى من ناحية وما هو اجتماعى من ناحية أخرى، وهو الصراع الذى أخذت تقل حدته مع تطور المجتمع المصرى ووصوله إلى العقود الأولى من القرن العشرين. فبعد ثورة ١٩١٩ أصبحت وظيفة «الحلاقة» مهنة ضمن العديد من المهن التى يحتاج إليها المجتمع، لكن من يقومون بها أصبحوا متفرغين تمامًا لأدائها بعيدًا عن ممارسة ما اعتادوا عليه من أدوار طبية، خصوصًا داخل القرى التى نوّرها التعليم، وبدأت الكهرباء تدخل بعضها، كما برئت المهنة مما كانت تتدثر به من أغطية دينية فيما سبق، بل أصبحت واحدة من المهن ذات الحظوة، خصوصًا بعد أن أصبح المشاهير من الحلاقين جزءًا من حاشية الكبار، وعلى رأسهم الملك فاروق الذى كان حلاقه الإيطالى الخاص «بترو ديلافالى» جزءًا من حاشيته، وقد رحل معه إلى إيطاليا بعد ثورة يوليو ١٩٥٢.

عادت الأغطية الدينية من جديد إلى استرجاع علاقتها بمسألة الحلاقة أواخر الستينيات وخلال حقبة السبعينيات مع المد الدينى الذى عاد إلى الظهور فى مصر بعد نكسة ١٩٦٧، وقتها كان المصريون قد تخلوا منذ عقود عن القصة التقليدية التى اعتادوا عليها، وهى «قصة الشوشة»، وأصبح الشباب أكثر ميلًا لإطالة شعره، والبنات لا يجدن غضاضة فى تقصير شعورهن، هنالك ثارت ثائرة الجماعات وأخذت الفتاوى تصدر، وترددت الأحاديث النبوية التى تؤثم المتشبهين من الرجال بالنساء «بتطويل الشعر» والمتشبهات من النساء من الرجال «بتقصير الشعر»، وبعد عدة عقود، ربما منذ عصر الملك فؤاد أو ثورة ١٩١٩، من تخلى المصريين عن عادة إطلاق اللحى، عادت الظاهرة من جديد، فغلبت على شباب الجماعات المتأسلمة بأطيافها المختلفة، ورجع من جديد الوجه الدينى لهذا التقليد، عاكسًا تحوّل قضية «شعر الجسم» إلى قضية دينية تخضع للتطور بضغوط المجتمع والردة بضغوطه أيضًا.