جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

استحضار روح الإمام

كلما تابعت معركة حول فتوى معينة، سألت نفسى ماذا لو كان الإمام محمد عبده حيًا بيننا؟ كيف سيكون رأيه فى موضوع الفتوى؟.. ثم ماذا سيكون رأيه فى بعض من لا يسير على نهجه ويغفل نصيحته؟.. لقد بنى الرجل منهجه فى الإصلاح الدينى على إعمال العقل فى أمور الشريعة، واختيار ما يناسب التفكير المنطقى دون النظر إلى النص الجامد.. وقد كان بذلك امتدادًا لتيار أهل العقل لا أهل النقل.. وقد كان أهل العقل تيارًا عظيمًا فى تاريخ المسلمين، الذين تراجعوا إلى الخلف منذ اختفاء هذا التيار مع نهاية العصر العباسى الأول، وصعود تيارات النقل، والجمود، والسلفية.. التى تبعها تدهور الدولة العباسية، ثم انقسامها.. وتراجعها حتى أضحت كيانًا صوريًا رمزيًا لا أكثر ولا أقل.. إننى أفكر لو أننا طبقنا منهج الإمام محمد عبده فى قضايا كثيرة لحُسمت هذه القضايا على الفور، دون الحاجة إلى نقاش أو مجادلة، ومن هذه القضايا قضية الطلاق الشفهى، والتى نعنى بها عدم الاعتداد بالطلاق باللفظ الذى يوقعه الرجل على زوجته وهو غضبان، أو وهو معها على الهاتف.. إلخ، والعقل يقول إن كل شىء فى الماضى كان شفهيًا، وإن كل شىء فى الحاضر صار موثقًا، وإن ما ينطبق على البيع والشراء، والرهون، والزواج نفسه، يجب أن ينطبق على الطلاق، فيصبح موثقًا، ولا يقع إلا عند توثيقه، والعقل يقول إنه مع فساد النفوس، وخراب الذمم.. فإن توقيع اتفاق قبل الطلاق يضمن حقوق الزوجة والأبناء والزوج أيضًا هو أصلح للجميع، ويرفع الضغط على المحاكم، حيث يلقى أحدهم كلمة الطلاق ويهرب، وتلجأ الزوجة للمحاكم كى تحصل على حقوقها، أو يلجأ الزوج للمحاكم كى يرى أبناءه.. مع أن توثيق الطلاق ومعه اتفاق يتضمن كل التفاصيل هو أصلح للزوجين، واستجابة لنداء العقل، لكنّ علماءنا فى الأزهر الشريف ما زالوا غارقين فى بحار النقل على حساب العقل، وهم لا يدركون أنهم بذلك يخالفون نهج «أزهرى عظيم» هو محمد عبده الذى لاقى من زملائه الكثير، ثم أثبتت الأيام أنه كان سابقًا لعصره، نافعًا لدينه ولمجتمعه بأضعاف أضعاف ما فعل من هاجموه واتهموه بالخروج عن الدين.. من تلك المعارك التى يثبت فيها بعض المتطفلين على الدعوة افتقارهم للعقل ما أثير عن حرمة بيع الأب ما يملك لبناته حتى يتجنب مشاركة إخوته للبنات فى ميراثهن، وقد رد د. على جمعة على هذه الفتوى، وقال إن هبة الأب لبناته تجوز، ولو أننا نظرنا للمسألة بمقياس العقل لوجدنا أن الوارثين يرثون ما يتركه الراحل يوم رحيله، فإذا كان هذا الراحل قد باع أو وهب أو خسر ما يملك فإنه خارج نطاق الميراث، سواء كان قد باعه لبناته، أو لغير بناته، أو تاجر به وخسره، أو تبرع به لأعمال الخير.. هو حر.. لأن كل إنسان حر، وهو ما يعبر عنه المثل القائل «من حكم فى ماله ما ظلم»، إلى غير ذلك من الأمثال التى تعبر عن حرية الإنسان فيما يملك.. ثم أليست هذه طريقة آمنة لضمان مستقبل البنات؟ أيهما أولى بالرعاية وتأمين المستقبل.. الفتيات الصغيرات اللاتى سيبقين بلا عائل بعد وفاة الأب، أم الإخوة والأقارب الأبعدين الذين نالوا نصيبهم من الدنيا واكتسبوا الثروات؟.. ثم ما العدل فى أن تنتقل ثروة الشخص لأخيه ثم لبنات أخيه بينما تحرم منها بناته؟ إننى هنا لا أعترض على أحكام الشريعة فى المواريث لا سمح الله، فلكل آية أسباب نزولها والتأويل الخاص بها والظرف الذى نزلت فيه، لكننى أقول إن علينا أن نُعمل العقل، وأن نتبع الطريق الأيسر، وأن نؤمن بأن الدين يسر لا عسر، وإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، إننا فى كل مسألة تعرض لنا يجب أن نستدعى روح الإمام محمد عبده، ونسأل أنفسنا كيف كان سيكون حكمه أو كيف سيكون حكم العقل؟.. وقتها فقط سندرك كم نظلم أنفسنا حين نسلم عقولنا للمتنطعين والخائفين من الاجتهاد، أو لأهل النقل الذين هم أعداء كل عقل.