جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

وجهة نظر فى جدل عابر

 

فى اعتقادى أن قضية العلاقة بين المسلمين والأقباط قضية مركّبة أبعد من وجود أو عدم وجود خانة الديانة فى البطاقة، والأكثر أهمية فى تقديرى نزع خانة الديانة من الثقافة الشعبية، من التربية، ومن العقول والنفوس.

وأتذكر أنه عندما كان نجيب محفوظ طالبًا بكلية الآداب، كان الشيخ مصطفى عبدالرازق يلقى محاضرة عن الإسلام، ومحفوظ جالس بين الطلاب المنصتين إليه، وبعد وقت توقف الشيخ وقال للطلاب إنه سيعيد شرح ما سبق لأجل خاطر «زميلكم المسيحى نجيب يفهم الموضوع»! فهتف الطلبة يقولون له: نجيب مسلم يا أستاذ! القضية إذن مركبة، وجذور حلها تكون بتغيير الثقافة الشعبية وتطوير التربية والتعليم، وسوف نلاحظ أن معظم، بل وأعنف، الأحداث الطائفية تتفجر بسبب الثقافة السائدة، وليس بسبب البطاقة ولا حتى بسبب بعض التشريعات والقوانين القديمة. 

تبقى القضية قضية العلاقة بين الطرفين أكثر من كونها قضية البطاقة، وقد اقترحتُ من قبل، وأقترح مجددًا، أن يتم وضع كتاب بعنوان «القيم الدينية المشتركة» لطلاب المدارس، لخلق وجدان مصرى عام يكون بمثابة حائط صد لأى تفرقة أو تمييز، على أن يشارك فى وضع الكتاب أدباء ومفكرون ينظرون إلى القيم المشتركة بين الديانتين، والتى تحض على رعاية الوالدين، وسيجدون فى ذلك الكثير، والقيم التى تنادى بالعطف على البؤساء، وسيجدون فى ذلك الكثير، وتجريم السرقة والزنا وخيانة الجار وغير ذلك، وعندما يدرس التلاميذ من صغرهم تلك القيم المشتركة بينهم، سيدركون أن ما يجمعهم أكبر بكثير مما يفرقهم، وسوف نضع ركيزة لوجدان وطنى راسخ، هذا الوجدان الذى يتألق ويظهر فى الأزمات والثورات.

وفى يناير ٢٠١١ كنت أقف فى ميدان التحرير وبجوارى أخى وصديقى إسحق حنا، هو يهتف بأعلى صوته: «يا أحمد روح بلغ حنا»، فأرد عليه: «بكرة بلدنا ح تبقى جنة»! كل ما علينا هو أن نرعى ذلك الوجدان، وأن نغذيه منذ سنوات الدراسة الأولى بأن نظهر للطلاب أن ما يجمعهم أكبر من أى شىء.

وما زلت أذكر إلى الآن الخجل والحيرة التى كنت أشعر بها حين كانت تحل حصة الدين، فأرى زميلين أو ثلاثة ينهضون ويغادرون الفصل، لأنهم مسيحيون، ولكن لنا أن نتخيل حضور الجميع حصة «القيم الدينية المشتركة»!، وأى أثر سيتركه ذلك الدرس الذى سيوحد التلاميذ فى بوتقة معنوية واحدة، وليس بجديد التذكير بالمشروعات الاستعمارية التى خططت ورسمت خرائط لتقسيم مصر على أساس دينى وعرقى إلى دويلات، واحدة للمسلمين وأخرى للمسيحيين وثالثة لسكان النوبة.

ومع أن الدساتير المصرية المتعاقبة والمواثيق الدولية المتفقة معها نصت كلها على عدم التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو الجنس، إلا أن تلك النصوص وحدها لا تكفى، لأن المشكلة فى معظمها تقع خارج النصوص، وتتفجر بسبب الوعى الشعبى المتخلف، ومن هنا تلوح مجددًا ضرورة نزع الخانة من الثقافة، وأهمية غرس القيم المشتركة بكتاب ما زلت أنادى وأطالب بوضعه، لكى تظل حية الغنوة المشتركة «يا أحمد بلغ حنا.. بكرة بلدنا ح تبقى جنة».