جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الأمة أولًا

منذ أزمنة وإلى عهد قريب كنا فى مصر نرفع شعارات سياسية ودينية بعيدة عن الواقع وفارغة من مضمونها، نرددها ونهتف بها ونجعلها دعاية انتخابية فى بعض الأحيان، وقد كان من أشهر هذه الشعارات تلك التى استخدمتها جماعة الإخوان مثل: «شرع الله عز وجل الإسلام هو الحل» و «بالروح والدم نفديك يا إسلام» وقد كانت هذه الشعارات تستهدف مخاطبة مشاعر الناس والتأثير عليهم، وبسقوط مشروع الإخوان سقطت تلك الشعارات، إلا أن الجماهير العادية وقت الاحتلال الإنجليزى لمصر كانت تهتف: نموت نموت وتحيا مصر، وكنت أتعجب وأنا أقرأ هذه الشعارات أو أسمعها من جمهور المظاهرات فى الأفلام القديمة، إذ كيف بعد أن يموت الشعب تحيا مصر؟! وكنت أقول إن الشعار المناسب هو «نعيش نعيش لتحيا مصر» أو «نتعلم نتعلم لتحيا مصر و «نقضى على الفقر لتحيا مصر» فمصر لن تحيا بالأموات، ولكنها تحيا بالعلم والمعرفة والعمل وغير ذلك.

وبعد أن قامت ثورة يوليو ١٩٥٢ أصبحت الشعارات تسير فى طريق أن نفدى الرئيس بدمائنا، فنقول «بالروح بالدم نفديك يا جمال» مع أن جمال هو الذى يجب أن يفدى شعبه بالروح والدم والتخطيط والعمل وما إلى ذلك، وظل هذا الشعار يتردد فى مصر كثيرًا فى عهد السادات ثم مبارك، ونفس مَن كانوا يقولون بالروح والدم نفديك يا جمال أصبحوا يقولون بالروح والدم نفديك يا سادات، ثم نفديك يا مبارك، ولم تفد الجماهير بروحها الرئيس السادات، بل تم اغتيال السادات، فى الوقت الذى كان صفوة رجاله يختبئون فى المنصة تحت الكراسى، ولم يتقدم أحدهم ليجعل من صدره درعا يحمى به السادات، وحينما ثارت الجماهير على الرئيس مبارك هربت جماهير الحزب الوطنى التى كانت تهتف له، واختبأت فى بيوتها، ولم يتقدم أحد منها ليكون فداءً لمبارك، بل إن بعض من كانوا يقبّلون يد مبارك وأيادى أنجاله وحرمه سارعوا بتقديم بلاغات للنائب العام ضد مبارك وأسرته!!.

والآن الآن فقط أصبحنا نسمع شعارات أخرى مختلفة عن تلك التى كنا نسمعها من قبل، والجميل أن هذه الشعارات أصبحت واقعًا نشاهده لا كلمات نسمعها، فمنذ أن كان الرئيس عبدالفتاح السيسى وزيرًا للدفاع، وفى عهد الرئيس عدلى منصور سمعنا الوزير عبدالفتاح السيسى وهو يقول إن دمه فداء لمصر، وإن أحدًا فى العالم لن يستطيع التعدى على الشعب، إلا أن يمر على جثته أولًا، وإن أرواح ضباط وجنود الجيش المصرى فداء لمصر وشعبها، وقد كان هذا الخطاب جديدًا على أسماعنا، فقد كنا نحن الفداء وكان الرئيس هو الذى سيتمتع بحمايتنا، بمعنى أن يفنى الشعب ويبقى الرئيس، وقد كان هذا خطابًا عبثيًا، إذ بعد أن يفنى الشعب ويذهب فداء للرئيس فهل ستكون هناك رئاسة أصلًا، أيكون رئيسًا على أجداث الشعب وقبوره ؟! وبعد أن أصبح السيسى رئيسًا لمصر، قال أكثر من مرة إن دمه ودم الجيش المصرى فداء لمصر، وبذلك أصبح شعار «نموت نموت وتحيا مصر» شعارًا له معنى، الرئيس يقدم روحه فداءً ليحيا الشعب المصرى، الرئيس قال الشعار حقيقة، فهو المنوط به أن يقول: «بالروح والدم أفديك يا شعب».

ولا يظنن أحد أننى أكتب هذا المقال لتمجيد الرئيس أو مدحه، فهو فعل الذى يجب أن يفعله، قدم نموذجًا تطبيقيًا لكلامه، فلم يكن كلامه مجرد كلام، ولكنه كان منهجًا عمليًا رأيناه رؤيا العين، ولكننى كتبت ما سلف لأدخل بكم إلى فهم إسلامى للعلاقة بين الرئيس والشعب، وستصبرون معى قليلًا على ما سأقوله، خطوة خطوة لنصل إلى المقصود، وكانت البداية أيها الناس من غار حراء، حيث خرج نور الإسلام ثم بزغ على العالمين، فقد تلقى النبى عليه الصلاة والسلام فى غار حراء بيانًا آمرًا له شخصيًا أن «اقرأ» وكان ذلك يُعبـِر عن تفرد المُخاطَب الذى هو سيدنا محمد من قِبَلِ المخَاطِب الأوحد الذى هو الله سبحانه، لا يشاركه فى ذلك، أى النبى، أحدٌ من الخلق، تفردًا يعنى اختصاصه دون غيره بتلقى بيان التوحيد ومضمون العقيدة، ليبلغها بعد ذلك إلى جموع المؤمنين والمتبعين «وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا» .

ما كان يمكن أن يشاركه أحد فى غاره وهو يتحنث، وما كان يمكن أن يصاحبه صاحب كما فعل أهل الكهف من قبل فى موقفهم عندما هجروا أذى الدنيا وضيقها إلى أمان الكهف وعزلته، كانت وحدته بالغار تمثل مفهومًا إيجابيًا منتجًا يعنى اختصاصه بالبداية، وكان تعددهم والتجاؤهم للكهف يعنى مفهومًا سلبيًا يمثل جنوحهم للنهاية، كانت وحدته فى الغار تمثل خصوصية بينه وبين ربه، وإن أمره الله بعد الاختصاص أن يجهر بدعوته للناس «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ» كان تفرده هذا فى موقف الغار الأول هو تفرد المتلقى، حيث اكتملت بعد ذلك فى مكة دورة العقيدة فى صدور المؤمنين.

ثم تكرر مشهد الغار ثانية للدلالة على بدء مفهوم آخر بعد أن اكتمل مفهوم التوحيد والعقيدة ابتداءً من موقف الغار الأول، ولكن لم يكن الموقفان متشابهين فإنه فى الغار الثانى لم يكن النبى واحدًا متفردًا، بل كان «ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ» لقد قامت هنا فى غار ثور ثنائية الشريعة بعد أن اكتمل تفرد ووحدانية العقيدة، كان يلزم أن يكون له صاحب فى موقفه هذا ليمثلا معًا ثنائية المجتمعات المدنية التى يلزمها شرع ينظم حياتها، كان النبى يمثل فى الحالة الثانية قائد الأمة وأميرها، وكان أبوبكر ينوب عن الأمة قاطبة فى تمثيلها فى هذا الموقف المشهود، وكأننا نرى فى فراغ الغار الثانى مشهد القائد محمد «عليه الصلاة والسلام» ومعه كيان الأمة كرمز فى هيئة أبى بكر.

ومن هنا بدأت العلاقة بين الحاكم والمحكوم، تلك العلاقة التى بدأت ملامحها تظهر عند الهجرة حين أذن الله أن تقوم دولة، لم تكن الدولة حينئذ دينية يتقدم فيها الرئيس أو الحاكم على المحكوم ويكون سيده وآمره وناهيه بل ومالكه فى بعض الأحيان والوسيط بينه وبين الله، كما كانت العلاقة فى القرون التى سبقت الإسلام، ألم ينطق فرعون بنظريته الاستبدادية فى الحكم حين قال «أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى» وقال «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» فكان فرعون فى دولته الدينية هو المالك وهو الإله وهو المهيمن بلا رقيب! اغتصب الحاكم لنفسه فى تلك القرون صفات ليست له، فهو الملك المالك، كما فى حالة فرعون، وهو الذى يحيى ويميت، كما قال الحاكم الجاهل الغبى الذى حاج إبراهيم فى ربه «أنا أحيى وأميت» لننتقل بعد ذلك فى ظل دولة الإسلام إلى «ثانى اثنين إذ هما فى الغار» فكان القائد مصيره مع أمته حتى وإن كان هو النبى سيد ولد آدم، لذلك لم يقل الله سبحانه : «أول اثنين» ولكنه قال: «ثانى اثنين» أى أن أبا بكر ممثل الأمة كان هو الأول والنبى كان هو الثانى، والترتيب هنا ليس ترتيب مكانة، فمكانة النبى أعلى من العالمين ولكنه ترتيب أولوية، فالأمة مفضلة فى الحقوق حتى ولو كان رئيسها نبى الإسلام.

ومن هنا فإن الإسلام دولته مدنية، وهى دولة أمة لا دولة شخص.. تلك الملامح هى التى شكلت مدنية الدولة، حيث لا كهنوتية ولا وساطة مدعاة بين العبد وربه.. صورة رائعة تتقدم فيها الأمة فى حقوقها على حاكمها مهما كان قدره.. يرتفع فيها شأن المساواة والعدالة والحرية لكل المحكومين.. فليس من حق حاكم أن يقدم نفسه على أمته أو أن يفرض نفسه قهرًا عليهم أو يعود لشعارات الفراعنة البائدة «أليس لى ملك مصر»! وقد كان هذا من أكبر الأخطاء التى وقع فيه الإخوان وأوقعوا فيها مرسى، إذ كان سعيهم دئوبًا لخلق دولة كهنوتية، لا يملك الشعب مراجعتها أو نقدها، دولة رئيسها أعلى من الشعب، فكان لا بد أن يسقطهم الشعب، أما دولتنا الحالية فهى الدولة التى فهم رئيسها حقيقة علاقته بشعبه فقال قبل أن يحكم «دمى فداء لمصر وشعبها».