جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الحضور الاقتصادى التركى فى إفريقيا

 

تحتل إفريقيا مكانًا استراتيجيًا واقتصاديًا مهمًا فى السياسة التوسعية التى تسعى إليها تركيا، متنافسة فى ذلك مع القوى الجديدة المتكالبة على إفريقيا كالصين، والخليج، وإيران، والبرازيل، بالإضافة إلى القوى الاستعمارية التقليدية كفرنسا وبريطانيا، وهو ما جعل من إفريقيا قارة متعددة الأقطاب المتنازعة.

عند النظر إلى تطور الوجود التركى فى إفريقيا فيكون مختلفًا عن القوى الأكثر تقدمًا مثل الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو فرنسا.. فتاريخ العلاقات بين هذه القوى وإفريقيا قائم على الاستعمار المباشر المحمل بأهداف سياسية واستراتيجية فى المقام الأول، فى حين أن تركيا دخلت إفريقيا انطلاقًا من الاقتصاد ذى الأبعاد الاستراتيجية والسياسية، ساعية فى ذلك إلى تأمين عمقها الاستراتيجى الاقتصادى.

فى ظل اتساع السوق الإفريقية، التى ما زالت بكرًا وتتمتع بمميزات وفرص هائلة للنمو والتعاون، يعد تزايد حجم السوق الإفريقية من مميزات القارة، التى تحتاج إلى مختلف المنتجات فى ظل ضعف قطاع الإنتاج، ما يجعل تدفق المنتجات التركية أكثر سهولة، خاصة أن القوى الشرائية الاستهلاكية فى القارة مرتفعة بين الشباب، وهو ما يجعل إفريقيا فى حاجة إلى المزيد من المنتجات ذات الأسعار التنافسية وعالية الجودة، وهذا ما سهّل من دخول المنتجات التركية، كما أن شركات المقاولات التركية تسهم فى بناء المطارات والمساكن والسدود فى إفريقيا.. وقد بلغت قيمة المشاريع التى أنجزتها الشركات التركية فى إفريقيا، حتى نهاية ٢٠١٩، نحو ٧٠ مليار دولار، والتى يبلغ عددها ١٥٠٠ مشروع، فضلًا عن أنه قد وقّعت تركيا اتفاقيات تعاون تجارى واقتصادى مع أكثر من ٤٩ دولة إفريقية، واتفاقية تحفيز وحماية الاستثمارات المشتركة مع ٢٨ دولة، واتفاقية تجنب الازدواج الضريبى مع ١٢ دولة إفريقية، وبموجب هذه الاتفاقيات أصبحت تركيا بالفعل تسهم فى النهضة التنموية والاقتصادية للقارة، ومن ناحية أخرى فهى مصدر لاستيراد الموارد الطبيعية منها؛ بعد اكتشاف الكثير من احتياطيات النفط واليورانيوم والذهب فى عدة دول إفريقية، فواردات الطاقة تمثل أهمية ضرورية لتركيا، حيث بلغت أكثر من ٤١.١ مليار دولار عام ٢٠١٩، وهو ما يعنى احتياج تركيا بشكل كبير إلى النفط والغاز، فهى تعد ثانى بلد بعد الصين فى استيراد الغاز، حيث تستورد أكثر من ٩٥٪ من حاجتها لهذا المورد، ولذا اختراقها القارة يؤمّن هذا الاحتياج الاستراتيجى من مواد الطاقة عبر شركات النفط المُستثمرة فى إفريقيا.

لا يمكن فصل المصلحة الاقتصادية لتركيا عن المصلحة الاستراتيجية جراء تواجدها فى منطقة القرن الإفريقى، ربما بشكل أكبر من باقى القارة الإفريقية، حيث اتخذت تركيا من وثيقة الاستراتيجية البحرية التركية، الصادرة عام ٢٠١٤، أن كلًا من البحر الأحمر وخليج عدن سيكونان حلقة الوصل الأساسية بين تركيا وشرق المتوسط والمحيط الهندى، ومن ثم اكتسبت دول القرن الإفريقى أهمية خاصة.. فوقّعت تركيا مع جيبوتى عام ٢٠١٧ على إنشاء منطقة تجارة حرة تبلغ مساحتها ١٢ مليون متر مربع، برأسمال قدره واحد تريليون دولار، وتحديدًا لأن جيبوتى تتمتع بموقع استراتيجى مهم عند المدخل الجنوبى لحوض البحر الأحمر، وإطلالتها المتميزة على مضيق باب المندب، الذى يمثل عنق الزجاجة بالنسبة إلى الاقتصاد العالمى. 

يحتل السودان أيضًا أهمية مباشرة فى السياسة التركية، فبعد رفع العقوبات الأمريكية عام ٢٠١٧، بدأت تركيا على الفور بالاستثمار فيه، حيث وقّع أردوغان اتفاقيات بقيمة ٦٥٠ مليون دولار، وتشمل ٣٠٠ مليون دولار من الاستثمارات المباشرة، كما وقّعا اتفاقية بقيمة ١٠٠ مليون دولار للتنقيب عن النفط، واتفاقية أخرى لتخصيص آلاف الأميال المربعة من الأراضى الزراعية السودانية لتستثمر فيها الشركات التركية، بالإضافة إلى موافقة السودان، لتركيا، على تطوير جزيرة «سواكن» المطلة على البحر الأحمر وإدارتها، وهذا يمنح تركيا ميزة استراتيجية مهمة، ومن خلالها يمكنها النفاذ إلى العمق الإفريقى، الذى تسعى إلى النشاط فيه بقوة، كما أن جزءًا كبيرًا من الصادرات التركية سيمر عبر هذا الميناء. 

يعد تحرك سياسات تركيا بإفريقيا مرتبطًا فى مجمله بالصراع على النفوذ من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر، وخلق مسارات جديدة تتيح لها مزيدًا من النفوذ فى تحقيق عودة الإمبراطورية العثمانية، فهذا مرتبط بالسياسة الإمبريالية لأردوغان.. وبدا الأمر جليًا من خلال رغبتها فى هيمنة لـ«القومية الإسلامية» تحت مظلتها عام ٢٠١١، مع حدوث ثورات الربيع العربى، وهو ما اتضح من رعايتها جماعة الإخوان المسلمين.