جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الطلاق الشفهى

بغض النظرعن قضية الطلاق الشفهى فى حد ذاتها، إلا أنها تصلح كمقياس حالة لطريقة تفكير رموز المؤسسة الدينية لدينا، وطريقة فهمنا نحن للدين، ثم فهمنا لدور الأزهر الشريف فى حياتنا، وقيمته فى تاريخنا.. الطلاق الشفهى قضية واضحة، ينطق الزوج بكلمة «إنت طالق» فيقع الطلاق، وما يترتب عليه من تبعات.. اجتهد أحد أساتذة الفقه، وأعدّ دراسة تستند لآراء كبار الفقهاء، اعتبر فيها أن الطلاق الشفهى أقرب لطلاق الغاضب.. والذى اعتبره ابن تيمية وابن القيم لا يقع، وأن توثيق الطلاق يعنى ضمن ما يعنى أن الزوج قد تخلص من حالة الغضب وفكر، ثم قرر أن يذهب ليوثق طلاقه.. هنا يقع الطلاق.. استند العالم الأزهرى أيضًا فى فتواه أو دراسته إلى أن الزواج مع تقدم الزمن أصبح لا يُعترف به إلا إذا تم توثيقه، وهو نفس ما يجب أن ينسحب على الطلاق الذى يجب أن يتم توثيقه.. هذا إذن اجتهاد واضح ومحدد من أستاذ للفقه، يستند إلى آراء للفقهاء الكبار، وإعمال منه لعقله فى حدود القرآن والسنة، وحين أعلن هذا الرأى رفضه شيخ الأزهر الإمام د. أحمد الطيب، وهو عالم كبير.. لكنه يبقى عالمًا من ضمن علماء، وشيخًا من ضمن شيوخ، ورجلًا من ضمن رجال، ومجتهدًا من ضمن مجتهدين.. ولا يقلل هذا من قيمته.. لكن الفكرة ببساطة أن الإسلام لا يعرف الكهنوت، لا يوجد فى الإسلام رجال دين، لكن يوجد «علماء» دين.. والفارق واضح.. ما هو الأزهر إذن؟ هل هو مؤسسة دينية نصّ عليها القرآن؟ بكل تأكيد لا.. هو جامعة عريقة جدًا.. وهو أكبر جامعة إسلامية فى العالم، لكنه يبقى جامعة عريقة.. تمامًا مثل جامعة هارفارد أو كمبريدج أو أكسفورد.. كل الفارق أن هذه الجامعات تدرس علوم الدنيا.. والأزهر يدرس علوم الدين.. الدكتور أحمد الطيب عالم رفيع المقام وهو قد يكون أكبر علماء الأزهر.. تمامًا كما أن الدكتور حسام موافى مثلًا هو أقدم أساتذة الباطنة فى جامعات مصر، يمكنك أن تذهب لأكبر أساتذة الباطنة لتستشيره، ويمكنك أن تذهب لطبيب عادى فى المستشفى المجاور لك لتستشيره.. كلاهما حاصل على بكالوريوس الطب مع تفاوت الخبرة.. وكلاهما مؤهل لعلاجك.. وأنت حر.. حين عُدت لرأى الإمام الأكبر فى موضوع الطلاق الشفهى وجدته يستند إلى أن الفقهاء الأربعة الكبار قالوا بعدم وقوعه، وحين تعرض لرأى الفقهاء الذين اعتبروا أن الطلاق الشفهى لا يقع قال إنهم «شواذ»، وأنا أعرف أنه يقصد أن آراءهم شاذة. لكننى أربأ بالإمام الأكبر أن يصف فقهاء المسلمين بأنهم «شواذ» بما للفظ من دلالة حالية، لمجرد أنهم يخالفون رأيًا يعتقد فى صحته، وما لاحظته فى الحلقة التى أعلن الإمام الطيب رأيه فيها هو أن أداءه تشوبه العصبية، فى حين أن كل أمر قابل للنقاش، وأنه يتهم مخالفيه بأنهم خانوا أمانة العلم، فى حين أنه يمكن أن يفكر أنهم يجتهدون مثله وإن خالفوه الرأى، وقد تعرض لرأى الإمام ابن حزم الظاهرى الذى يخالف رأيه، ففنده، وضعفه، وقال إنه يقول إن الطلاق الشفهى يقع، رغم أن صاحبه يكون آثمًا، وما أقصد أن أقوله إن الإمام الأكبر يخوض المعركة، وكأنها معركة شخصية لا علمية، وكأنها خلاف وجود لا خلاف حدود، وكأنها مسألة مبدأ لا مسألة خلاف علمى.. وبالتالى هو يظن أن صاحب الرأى الآخر صاحب غرض، وصاحب هوى، وصاحب منفعة، ومفرط فى دينه، وخائن لعلمه.. رغم أن الأمر قد لا يكون كذلك إطلاقًا.. وربما يكون المختلف مع الإمام الأكبر هو صاحب الحق.. النقطة الأهم هى.. هل نريد للإسلام أن يكون بئرًا راكدة.. أم نهرًا جاريًا يتجدد ماؤه؟.. لو رجعنا فى كل شىء لآراء الأئمة الأربعة فنحن نتعامل مع الإسلام على أنه بئر مغلقة على مائها، وستؤدى نفس المقدمات لنفس النتائج، والأئمة الأربعة هم علماء اجتهدوا فى تأسيس الفقه الخاص بهم وبزمنهم، وبمكانهم.. وتوقف الاجتهاد بعدهم، وهو متوقف حتى الآن رغم مرور ١٢٠٠ عام على ظهور المذاهب الأربعة الأشهر.. والمنطق يقول إنهم كانوا رجالًا ونحن رجال.. وإن لكل زمن قضاياه.. وتحدياته وفقهاءه أيضًا.. والمعنى أننا لا يجب أن نخاف من الاجتهاد.. ولا أن نسىء لمن يحاول الاجتهاد.. وأن نطبق قول الإمام الشافعى «رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب».